كانت حلب تزود بالماء من ثلاثة ينابيع في قرية حيلان التي تبعد حوالي عشرة كيلومترات عن مدينة حلب باتجاه المسلمية شمال شرق المدينة ، تتجمع المياه في حيلان في ثلاثة برك حجرية ، و تنقل المياه بواسطة قناة جر ، قسم منها مكشوف، و الآخر مغطى .
تدخل قناة الماء المدينة من جهة بساتين باب الله (بالقرب من دوار الشعار حاليا ) لتمر على بساتين الجانكية ( مكان مؤسسة المياه و مبنى نادي حلب الصيفي حاليا ) لتدخل محلة الشيخ فارس ( الهلك حاليا)، و لتمر بالقرب من مقام الشيخ أبو بكر ( المشفى العسكري القديم ) لتدخل المدينة .
توزع المياه بواسطة أقنية فخارية و رصاصية، لتصل إلى الأحواض العامة و الحمامات و السرايات ، و البيوت التي تدفع مبالغ لقاء هذه الخدمة .
تنظف القناة سنوياً في شهر أيار ، و تقطع المياه لمدة عشرة أيام عن المدينة ، و تغلق الحمامات العامة خلال هذه الفترة .يقوم بذلك رجل يسمى القنواتي ( تحمل أسرة حلبية هذه الكنية ) .
أما البيوت التي تقع في مناطق عالية مرتفعة، و البيوت التي لا تدفع لقاء ماء القناة فتحصل على المياه من السقاءين، الذين ينقلونها من الأحواض العامة.
كما يحصلون على المياه من آبار تحفر في البيوت ( جباب )، و هي على نوعين جب نبع ، وجب جمع، فتسلط مياه الأمطار التي تسقط على الأسطحة عبر مزاريب، لتجمع في (جب جمع ) يسمى الصهريج ، تستعمل مياهه غالباً في أعمال التنظيف .
يقيم أهل الخير عادة سبيل ماء مجاني للشرب، و يكون قرب الجوامع و الأسواق، و هو مؤلف من بناء صغير ذي نوافذ ، توضع المياه في خزان رصاصي ضمنه ، و يوضع بجانبه كوب نحاسي صغير مربوط بسلسال.
هذه المياه اعرفت لدى الحلبيين باسم (قناة حيلان )أو اختصارا ( القناية ) , وكانت تؤمن المياه إلى كل بيت وجامع ومسجد ومدرسة , وإلى مئات القساطل المنتشرة في المدينة , ليرتوي منها الإنسان والحيوان , احتسابا .
مسؤلية هذه القناة تقع على عاتق أكبر رجال الدولة : ملكا كان أو سلطانا , وحتى على الخليفة في اسطنبول العاصمة .
إن جر مياه القناة من ينابيعها المتعددة و القريبة من بعضها , وجمعها في أكثر من بركة لاتزال آثار بعضها ماثلة إلى العيان حتى اليوم . ومسيلها في أقنية تارة تحت الأرض وتارة فوقها , عمل هام جدا يجب الإهتمام به و الإفادة منه في كل أرض تعبرها القناة : ويجب المحافظة على التنظيف والترميم والتوسيع والتقسيم أيضا .
لإن مياه القناة تحي مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية , والبساتين من على طرفيها هي جنات أهل المدينة يتروحون فيها في نزهاتهم و صيفهم الحار ضمن المدينة .
حتى أن مبدأ الأواني المستطرقة الذي ندرسه في مدارسنا يتحقق هنا لمرور القناة في أراض ليست هي بالضرورة مستوية دائما وأحيانا منحدرة ليسير فيها الماء ولم تكن المضخات الكهربائية قد وجدت بعد .
قبل أقل من مئة عام , انتبه حلبي عريق باحث لمياه بلاد الشام عامة ولمياه حلب خاصة , وقام بدراسة معمقة وشاملة ل(قناة حيلان) نشرت في مجلة المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق , وكان لها صدى علمي واسع , خاصة وإنها من بين دراسات كثيرة نشرها هذا الباحث العالم في مضمار المياه و الأنهار والينابيع .
وتم نشر ابحاثه هذه في كتابنا هذا وهو مرفق بالصور والخرائط والمخططات النادرة.
إنه المهندس صبحي مظلوم الحلبي العريق مواليد عام 1905م , الذي صمم بناء كنيسة الملاك ميخائيل في حي العزيزية وصمم البناية السكنية لجورج سالم المطلة على ساحة قسطاكي حمصي بالعزيزية أيضا، درس المهندس مظلوم في حلب وبيروت حيث حصل على الشهادة الثانوية عام 1923م.
ثم نال شهادة الهندسة من الجامعة الإفرنسية في بيروت عام 1926.
التحق بعدها مباشرةً بمديرية الأشغال العامة في حلب ونال في السنة نفسها منحة من الحكومة السورية لإكمال دراسته في معهد الجسور والطرقات Ponts et chaussées في باريس.
تخرَّج عام 1929 وعُيِّن في نفس العام مديرًا حتى عام 1948 لإدارة مكتب الريِّ في المنطقة الشمالية، ثم مديرًا لإدارة الريِّ في دمشق.
رحل صبحي مظلوم في ريعان عطائه عام 1964م عن عمر ناهز 58 عاما.
ولقد أبنه أحد الوزراء في حينه بقوله شعرا :
حلق النسر في الفضاء بعيدا رجع النسر بعد ذاك شهيدا
بقلم المحامي علاء السيد
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |