ما أن سمعت بنبأ إلغاء رسم الفيزا بين سورية و تركية ، حتى عقدت العزم على الاكتفاء من تمضية العيد كالعادة في البدروسية و رأس البسيط ، و توجهت أنا و أهل بيتي و أولادي الأربعة باتجاه باب الهوى وهو المنفذ الحدودي الأقرب إلينا في حلب .
من بعيد رأيت بوابتين مخصصتين لدخول رتلين من السيارات . في ظل الغياب الكامل لرجال الشرطة الذين يفترض بهم تنظيم السير ، فسارعت مع أقراني للـ " مطاحشة " ، و تشكيل ما يزيد على عشرة ارتال عرضية سدت الطريق أمام هاتين البوابتين الضيقتين ، و بدأنا جميعا بممارسة الطقس اليومي بالمزاحمة و " المطاحشة "و التدفيش .
ازداد توتر الأجواء و ارتفع الصياح و السباب، و استطعت كالعادة بفهلويتي المعهودة تجاوز دور غيري , و النفاذ إلى الداخل و تجاوزت رجال الحدود السوريين المحافظين على تقاليدهم التي بات من الممل اعادة الحديث عنها.
انطلقت باتجاه الجانب الثاني من الحدود ، فوجئت ببوابة واحدة معدة لدخول السيارات في رتل واحد فقط ، و فوجئت أن ذات السيارات التي كانت تتزاحم قبل قليل ، تقف بانتظام برتل واحد طوله مئات الامتار دون أي خلل.
وبما أن " الفهلوة " هي طريقتنا المعتادة في الخروج من المآزق , خرجت عن الدور و قمت بتشكيل رتل ثان ، ففوجئت برجال الشرطة و الجمارك الأجانب المنتشرين بأعداد كبيرة على طول الطريق , والذين قاموا بتنبيهي ، وإعادتي إلى الطريق القويم .
بعدما عبرنا جميعا بيسر و سهولة ، و بسبب النظام الشديد..... بدأت اشعر بالغربة.
وصلت الفندق ، فإذ به كالقصر ، " قطافة " و نظافة و أبهة و فخامة ، و استلمت غرفتنا المهيبة المجهزة بكل شيء .
بدأت فورا بطلب المزيد من البشاكير و المخدات و الشراشف و علب الشامبو و الصابون ، وكل شيء يمكن أن احصل عليه مجانا ، فالأمر مكسب و أنا دافع مصاري .
شاهدت مسبحا ضخما من نافذة الغرفة ، و تمسكا بتراثنا التليد ارتديت اللباس التقليدي ( الجلابية و الجاروخ أبو إصبع ) ، و طلبت من زوجتي أن ترتدي كل ما لديها من ثياب تمسكا بالحشمة ، و نزلنا مع الأولاد إلى المسبح .
لم افهم لماذا ينظر لي الجميع باستغراب و أنا ارتدي " جلابيتي "، و زوجتي ترتدي كل ما لديها من ثياب على ضفة المسبح ، بل كانوا ينظرون باستغراب أيضا إلى احد أقراني الذي ارتدى طقمه الفرنجي الكامل ( الجاكيت و القميص و البنطلون ) و نزل إلى ضفة المسبح أيضا .
طلبت من أهل بيتي ( زوجتي ) - و هي مثقلة بما ترتدي - أن تجلس في منطقة بعيدة متطرفة كي لا تنكشف على احد ، و سارعت أنا للقيام بجولة أشاهد فيها نساءهم ترتدين لباس البحر ، و أبحلق فيهن براحتي ......ما دمت مطمئنا إلى جلوس زوجتي في منطقة متطرفة لا يستطيع رجالهم رؤيتها فيه .
سارع الأولاد إلى " الزحليطات المائية " التي تصعد إليها بدرج ثم تنحدر عليها بسرعة شديدة إلى المسبح ، و لكن أولادي الذين ورثوا " فهلويتي " و بتشجيع مني ، أدركوا أن الصعود على " الزحليطة " مباشرة بعكس اتجاه النازلين بسرعة عليها ، أمتع من الصعود على الدرج و النزول من أعلى " الزحليطة " .
لم افهم لماذا يصيح جميع النازلين استهجانا لما يفعل أولادي ، و لم افهم لماذا يصفر المشرف على المسبح بصفارته بهذه الشدة .
احترت كيف سيسبح ابني الصغير و هو يرتدي ( الحفاض ) فكلما وضعته في الماء يمتلئ حفاضه بالماء ، و أخيرا قررت أن يسبح كما ولدته أمه فأنا من أنصار العودة إلى أمنا الطبيعة . لم افهم لماذا خرج جميع من حولي من الماء .
و عندما ألحت زوجتي أن تنزل إلى الماء قلت لا بأس بشرط أن تسبحي بما ترتدي من ألبسة كاملة ( على الرغم من أن ألبستها ما أن تبتل بالماء حتى تلتصق بجسدها ) فأنا محافظ و أحب الحشمة ،و أصر على ارتياد مسابح العائلات .
سارعت إلى المطعم عندما سمعت بالوجبة المفتوحة المجانية ، وصرت احمل أكواما من الأطعمة في صحون فوق بعضها البعض ، و أضعها على طاولتي أمام أسرتي .
عندما سألتني زوجتي ماذا سنفعل بكل هذه الكميات قلت لها : " كلي أقصى ما تستطيعين ، مكسب يا عزيزتي ، نحنا قاعدين بمصراتنا " .
فوجئت بمن حولي يجلب صحنا واحدا فقط ، فيه نوع واحد فقط من الطعام يكفي شخصا واحدا طبيعيا .
طلبت من الأولاد أن يضعوا في جيوبهم قدر ما يستطيعون من معلبات الزبدة و المربى و العسل ، فربما نجوع بعدها ( على الرغم من وجود ثلاث وجبات يومية مجانية كاملة ).
قمنا و الأكل كما هو لم نأكل منه سوى سعة بطوننا، ليحمله الجرسون و يرميه في القمامة ( معلش العين كمان بدها تشبع ) .
تساقطت علب الزبدة من جيوب ابني الصغير ودعس فوقها فانفجرت العلب بما فيها على الأرض ، حملته بسرعة كي لا يرانا مسؤلوا الفندق ، و أنا انوي زيادة جرعات " الفهلوة " لديه كي يضع العلب عميقا في جيوبه، و لا يقع في أخطاء كهذه في المرة القادمة. على الرغم من بقاء الزبدة على الأرض و خطورة أن يتزحلق بسببها من يأتي خلفنا ( ليست مشكلتي ).
آن أوان السيجارة المعتادة بعد طعام الغداء ، طلبت منفضة السجائر , فقالوا لي : لا يوجد أي منفضة في الفندق ، فالتدخين ممنوع منعا باتا داخل مبنى الفندق كاملا ، و لا يوجد أبدا من يدخن فيه - بعد صدور قانون يمنع التدخين في الأماكن العامة – و على من يرغب بالتدخين الذهاب للمكان المخصص لذلك في الخارج ( أمام مدخل الفندق) .
شاهدت المكان الانيق المخصص لذلك ، و قد جلس فيه البعض بهدوء ، يدخنون و أمامهم منافض سجائرهم ، فلم يعجبني أن اخرج من الفندق كلما رغبت بالتدخين ، و شعرت انه اعتداء صارخ على حريتي الشخصية .
و بـ "فهلويتي " المعروفة صعدت إلى الطابق الأخير في الفندق، لأشاهد مجموعة من أقراني - يماثلونني فهلوية - يزدحمون وقوفا في ممر متطرف بين غرف الطابق الأخير، يدخنون و يرمون أعقاب السجائر على الموكيت... فلم اشعر بالغربة حينها .
نزلت بعدها إلى المركز الصحي للفندق و دخلت " الساونا " ، و ما أن جلست قليلا حتى انقطعت الكهرباء للحظة - لم تتكرر بعدها - ثرت صائحا بهم: كيف تنقطع الكهرباء في فندق كهذا , فاعتذر المشرف بشدة و همس بأذني " حتى لا تشعر بالغربة " .
نزل أولادي " الحلوين " إلى قسم الألعاب الكهربائية في الفندق ، و ظلوا يضغطون الأزرار باستمرار و بشدة و بعنف ، و أنا بجانبهم أشجعهم ، حتى توقفت الألعاب تماما عن العمل .
في المساء ، شعرت بالحنين لجلساتي المفضلة على اوتوستراد المحلق و اشتهت نفسي " الاركيلة " ، سارعت إلى سيارتي ، أخرجت شنطة " الاركيلة " و الغاز الصغير و بدأت بإشعال الفحم في الشارع ، جلست على الرصيف أمام المدخل الرئيسي الفندق و أمامي حدائقه الجميلة ، استمتع بالمعسل و أراقب الداخلين و الخارجين , فأحسست بذات الشعور على شارع المحلق .
آن أوان الرحيل فطلبت من زوجتي أن تجمع كل ما يمكن حمله من غرفة الفندق ، فـــ" نحنا دافعين مصاري و بدنا نطالعها " ، جمعنا كل ما يمكن حمله . و لكنني عجزت عن انتزاع " لمبات " الإضاءة المثبتة بطريقة لعينة لم تنجح معها " فهلويتي " .
وقفنا أمام المصعد ،و ضغطت على الزر الذي أضاء إيذانا بنزول المصعد الذي تأخر قليلا لوجود العديد من المغادرين .
و " بفهلويتي " أدركت انه كلما ضغطت على الزر الكهربائي للمصعد باستمرار و شدة كلما نزل بشكل أسرع.
و يبدو أن أقراني - المغادرين معي - من ساكني مختلف الطوابق يعرفون هذه المعلومة أيضا ، فقمنا بها جميعا ، إلى أن توقف المصعد تماما عن العمل و احتاج للصيانة , لا بأس فنحن في الطابق الاول ،والنزول سهل .
غادرنا الفندق مودعين ، غير مأسوف علينا .
انتهت المذكرات
كتبت هذه المشاهدات مما رأيته و سمعته في رحلتي تلك- و لئلا يتهمني احد بالاستعلاء - ربما فعلت أنا أيضا بعضٌ مما ذكرت.
كنت أشعر بالاسف و الخجل و أسأل نفسي باستمرار :
لماذا نمارس هذه الهمجية ، و لماذا ابتعدنا عن التصرفات الحضارية و نحن من بلد عريق تجذرت فيه الحضارة و الأخلاق .
لماذا نفعل ما نفعل على الرغم من أن عقيدتنا الدينية تنهانا عن جميع ما شاهدته من ممارسات .
ما الذي جرى حتى تحولنا إلى مجتمع مخرب لا يحترم القانون ، ينظف داخل بيته و يرمي بأوساخه في كل مكان.
هل هناك إمكانية أن نعود إلى أخلاقنا و حضارتنا في المدى المنظور...و ما هي الوسيلة لذلك. .
ربما تكون الشدة في تطبيق القوانين هي الحل فقد التزم الجميع بارتداء حزام الأمان فور صدور قانون السير الجديد و مخالفة من لا يضعه ( أو مضاعفة التسعيرة الفورية لرجال الشرطة ).
عندما صدر قانون ( منع التدخين في الأماكن العامة ) لدينا لم يكترث به احد، صدر قانون ( النظافة العامة ) منذ سنوات ، و هو قانون إذا طبق صارت بلادنا أنظف من أنظف بلاد العالم ، لكنه لم يطبق أبدا.
هل تكفي الشدة في تطبيق القانون لعودة الأخلاق و الحضارة، أم أن الأمر يحتاج الى غير ذلك الكثير
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
عندما بدأت الحملة الممنهجة لتبييض صورة السلطان عبد الحميد عمدت بعض الكتابات العربية للترويج لقصة اليهود الدونمة ومحاولتهم شراء أجزاء من فلسطين ورفض السلطان عبد الحميد لذلك بطريقة بطولية مما دعا هؤلاء لخلعه المزيد
جاء في الفصل الأول المعنون : الشخصية الحميدية من كتاب "أوهام الذات المقدسة السلطان عبد الحميد لمؤلفه المحامي علاء السيد وذلك تحت تحت عنوان : رقابة المطبوعات الحيوية المزيد
اعتمد كتاب"أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" على حوالى 78 مصدرا ومرجعا و على ما نشر في حوالى 17 جريدة ومجلة من أخبار ومقالات متعلقة بما ورد في الكتاب المزيد
الفهرس 6 , مقدمة 9 , تمهيد 11 , الفصل الأول: الشخصية الحميدية 29 , طفولة سلطان 31 , شروط مدحت 33 المزيد
أفرد كتاب "الذات المقدسة ، السلطان عبد الحميد الثاني" فصلاً كاملاً بعنوان : "السلطان عبد الحميد وقضية فلسطين" في 56 صفحة فيها 116 اشارة توثيقية مرجعية المزيد
لإيفاء دراسة شخصية عبد الحميد حقها، يجب أن نعي تماماً أن هذه الشخصية تطورت وتعقدت خلال ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً من الحكم، المزيد
إن الاستيطان اليهودي في فلسطين زمن الدولة العثمانية حتى نهاية عهد السلطان عبد الحميد وقبل عهد " الاتحاد والترقي" بُني على طريقتين المزيد
مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي. والرد على المقال . المزيد
لا تزال الأسئلة والتكهنات كثيرة حول نشوء تنظيم "الماسونية" السري والذي يعرف باسم "عشيرة البناؤون الأحرار"، ومن الروايات الشائعة عن نشأة الماسونية المزيد
لم يثر رجل الجدل كما أثاره جرجي زيدان، فمنهم من اعتبره باحثاً وأديباً وصحفياً موسوعيا ومجدداً في إسلوب الطرح التاريخي، ومنهم من اعتبره مخرباً مزوراً للتاريخ عامة وللتاريخ الإسلامي خاصة المزيد
قلة يعرفون أن اسكندر فرح و هو من مواليد دمشق سنة 1851م حاز أعلى الدرجات الماسونية في تلك الفترة المبكرة من تاريخ سوريا و حقيقة الأمر أنه عندما تعين مدحت باشا المزيد
في مطلع العشرينات نشطت حركة بناء العقارات في محلة العزيزية سواء بهدف السكن أو التجارة. قام عدة أثرياء ببناء أبنية سكنية تشابه القصور للسكن فيها. المزيد
عند انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، انسحبت القوات التركية وحلفاءها الألمان من سوريا، و قد كان تعدادهم قد وصل إلى عشرة آلاف جندي ألماني، وخمسة عشر ألف جندي تركي، وحوالي اثنا عشر ألف جندي عربي موالين للعثمانيين المزيد
يعتبر بيت الخواجة فتحي انطاكي من أهم واقدم البيوت في محلة العزيزية، وتعود قصة بناء هذا البيت للقرن التاسع عشر عندما أدرك ثلاثة من تجار حلب في الربع الأخير من القرن التاسع عشر أن فرصة الربح كبيرة في حال المتاجرة بالاراضي المعدة المزيد