طرق إدارة شؤون الولايات العثمانية خلال عهد حكم السلطان عبد الحميد الثاني - ولاية حلب أنموذجاً

اشتهر السلطان عبد الحميد الثاني بقبضته الحديدية، ومتابعته الدقيقة لكل ما يجري في ولايات السلطنة العثمانية عبر آلاف التقارير التي كانت تصله من كافة أرجاء السلطنة، كما اشتهر بامضاءه ساعات طويلة يوميا وهو يقرأ ويدقق و يطلع على هذه التقاريرفلم تكن تخفى عنه خافية، و اشتهر بحصر اصدار كافة القرارات منه شخصيا في مركزية شديدة. 

سنتناول في بحثنا هذا انموذجا هاما عن طريقة السلطان عبد الحميد لادارة الولايات العثمانية واخترنا أحد أهم الولايات العثمانية حينذاك وهي ولاية حلب.

هذا النموذج هو والي حلب الشهير جميل باشا، الذي قام أهالي حلب بتسمية أحد أحياء حلب باسمه وهو حي الجميلية، في سابقة لم تجر من قبل بتسمية حي هام باسم والي عثماني، على الرغم أن التسمية الرسمية للحي كانت السليمية على اسم احد ابناء السلطان عبد الحميد لكن طغت التسمية الشعبية على التسمية السلطانية.

تعين الضابط في الجيش العثماني الفريق جميل باشا ابن الضابط المشير نامق باشا قائداً لفرقة جنود عثمانيين في حلب، كان هذا الضابط قد بدأ خدمته العسكرية مرافقا خاصا للسلطان السابق عبد العزيز وكان مقربا من السلاطين خاصة لوجود والده المشير نامق باشا وهو من كبار ضباط الجيش العثماني.

صورة شخصية لوالي حلب جميل باشا

حدثت حوادث شغب مجهولة السبب في حلب، وقام البعض بمحاولة سرقة حوانيت التجار، وهنا قام قائد هذه الفرقة العسكرية بقمعهم وحماية محلات التجار، بينما وقف والي حلب عاجزا عن ضبط هؤلاء المشاغبين، كان اسمه سعيد باشا، ما لبث أن استقال هذا الوالي بعد تصاعد نقمة التجار على عجزه . 

قام الضابط جميل باشا بجمع تواقيع التجار الحلبيين على معروض يطلبون فيه من السلطان عبد الحميد تعيين جميل باشا والياً على حلب، وأرسل جميل باشا المعروض للسلطان، فقام السلطان بتعيينه والياً عام 1880م ، وقام بترفيع رتبته العسكرية من فريق إلى مشير.

ما أن تعين واليا حتى خصص يوما في الاسبوع بعد صلاه الجمعة للجلوس واستقبال التجار في أحد دكاكين سوق قماش الجوخ المستورد من انكلترا أحد أهم أسواق المدينة بحلب وهو الدكان العائد لصديقه المقرب تاجر الجوخ أحمد أفندي بطيخة الذي تولى لاحقا رئاسة غرفة تجارة حلب عام 1887م. اهتم اهتماما شديدا بأمور التجار الذين كانوا يشكو باستمرار من قطاع الطرق الذين كانوا يعرقلون أعمالهم التجارية فقام الوالي بقطع دابر هؤلاء اللصوص وتوسعت أعمال التجار بسبب ذلك. كما ذكر الطباخ في كتابه إعلام النبلاء

كان هذا الوالي ذو دهاء شديد، فأظهر العطف على الضعفاء، بل اتفق مع صديقه التاجر بطيخة على ترميم جامع السلطانية أمام قلعة حلب لإظهار ورعه، مما  أكسبه شعبية كبيرة حمته من تصاعد شكوى العامة المزعجة عليه، بالمقابل بعدما حالف التجار اختار مخاصمة وجهاء المدينة من طبقة الأثرياء ملاك الأراضي الواسعة التي تدر دخلا طائلا.   

 بدأ الصدام مع هؤلاء عندما توفي مصطفى آغا كتخدا بن بكور آغا زعيم آل كيخيا وأثرى أثرياءهم،  فقام الوالي  بفرض اتاوة على ورثته حصل بموجبها على خمسة آلاف ليرة ذهب عثمانية -وهو مبلغ طائل في ذلك الزمان-  بحجة أنها إعانة وهدية من تركة المتوفي، وأعلن أنه سيأخذ حصة من تركة أي ثري متوفي. 

كانت الضربة الثانية لآل الجابري، فقرر الوالي نفي نافع باشا الجابري ( الأخ الأكبر لسعد الله الجابري ) إلى مرعش، ناوياً إركابه على دابة طوال الطريق إليها بدلا من عربة مسقوفة وفي شهر تموز والحر شديد، قصد القضاء عليه، للاستيلاء على حصة من تركته.

ولكن تكاتف بقية الوجهاء لمنع اتمام هذا الامر، لعلمهم أن الدور التالي سيكون عليهم واحدا اثر الآخر، فحقد عليهم جميل باشا، ويبدو انه قرر ضربهم جميعا ضربة واحدة بخطة شيطانية.

أثرى جميل باشا ثراء فاحشا خلال ثلاث سنوات من توليه الولاية، واشترى اربع عشر قرية على طريق حلب دمشق بالقرب من معرة النعمان، منها قرية قسطون التي تعد من أفضل القرى في سوريا خصباً وجمالاً. 

كما استطاع الحصول من البلدية على قطعة أرض في منطقة قريبة خارج أسوار المدينة جهة الغرب، ليبني عليها قصرا ضخما لسكنه الشخصي، وهي المنطقة التي ستسمى لاحقا حي الجميلية على اسم هذا الوالي. 

بدأ البناء بعد ثلاثة سنوات من توليه الولاية عام 1883م ،انتهت أعمال البناء المكلفة خلال سنتين فقط، وانتقل جميل باشا للسكن في قصره المهيب، وهو المبنى الذي كان قائما أمام ثانوية معاوية وهدم في الستينات. بعدما عانى كل من سكنه من النحس. 

كان صاحب الصوت الأعلى في مناهضة أعمال جميل باشا بمواجهة طبقة الوجهاء في ذلك الوقت المحامي عبد الرحمن الكواكبي 

( كان المحامي يحمل لقب وكيل دعاوي حينذاك)، فاختار جميل باشا محاميا أرمنيا بسيطا يعمل في مكتب الكواكبي اسمه زيرون جقمقيان، وأصدر قرارا في عام 1885م غير مبرر بمنعه من العمل في المحاكم العثمانية، فضاق الحال بهذا المحامي وحاول لقاء الوالي عدة مرات لفهم الاسباب فلم يستقبله، فما كان من هذا المحامي الا ان انتظر موكب الوالي المار من باب الفرج والمتجه الى قصر سكن الوالي في الجميلية، ورمى بنفسه على عربة جميل باشا عساه يلتقيه، فساد الهرج والمرج من حرس الوالي. 

اقتنص جميل باشا هذه الفرصة الذهبية وأعلن أن زيرون كان ينوي اغتياله وأنه اشهر مسدسا خلال هجومه هذا، والشهود هم حرسه الخاص، وأن جريمة الاغتيال بتوجيه من عصابة شكلها وجهاء المدينة.  قبض الحرس على زيرون ونُقل إلى دمشق وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً، وتوفي المسكين بعد إمضاء ثلاث سنوات في السجن .

قبض جميل باشا بسبب هذه التهمة على  عدد كبير ممن عارضه من الوجهاء الأغنياء الذين رفضوا دفع الأتاوات وزجهم بالسجن،  كحسام الدين أفندي القدسي ونافع باشا الجابري وعبد الرحمن آغا كتخدا وعبد الرحمن أفندي الكواكبي ومحمود آغا الشربتجي ومصطفى آغا يازجي وغيرهم . وأصبحوا جميعا بالنسبة له جاهزين لدفع المعلوم بعد ابتزازهم، وقام في خطوة جريئة بكف يد القائد العسكري لحلب محمد علي باشا وعزله واستلم قيادة الجنود بنفسه، خشية معارضة هذا الضابط لقراراته هذه، وتعاطفه مع هؤلاء الأثرياء، وربما لئلا يقتسم معه الأرباح.

رفع القائد العسكري المعزول كتابا عاجلا للسلطان بهذه الوقائع، كما رفع أحد المفتشين المرسلين من السلطان وتصادف وجوده بحلب –كان اسمه صاحب بك وكان قريبا من أحمد أفندي الكيخيا - كتابا للسلطان طلب فيه عزل جميل باشا لتحقق جوره.

كان قرار السلطان عبد الحميد في عام 1886م الاكتفاء بعزل الوالي ونقله إلى بلاد الحجاز بعيدا عن الأعين، وما لبث أن عاد جميل باشا بعد فترة قصيرة إلى استانبول حيث توفي في قصره بمحلة جامليجه في دار السعادة (استانبول) سنة 1888 م.

المراجع : 

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة