تاريخ بحسيتا الجزء الثاني

معنى اسم " بحسيتا "

أورد الشيخ كامل الغزي في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب عدة آراء حول معنى الاسم ، ورجّح أخيرا ان بحسيتا كلمة سريانية مركبة من كلمتين : أولاهما بيت والتي تختصر في السوريانية بحرفي ( با ) فقط مثل أسماء المناطق السوريانية الأخرى ( بانقوسا وتعني بيت الناقوس ، باريشا وتعني بيت الريس وغيرها ) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة ، وبذلك يكون معناها بيت الطهارة والمغفرة .

ويقول الغزي : (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس ،يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم ) 
أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر  ، وهو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا ، وان شخص اسمه سيتا باح بسر ما ، وافترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح ولهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته و لا أعتقد بدقة هذا التفسير لعدم وجود دليل تاريخي عليه و انما هو مجرد افتراض ، رغم أن المعنيين تبنوه ووضعوه على لوحة رخامية في مدخل بحسيتا . 

و هناك رأي يقول ان سيتة هو اسم  من اصل سورياني ، وان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه ، وبدمج باحة مع اسم سيته كانت بحسيتا .

و هناك رأي يقول أن بحسيتاهي كلمة من أصول اسبانية و تعني (الارض المنخفضة )علما ان تلك المنطقة تشكل أرضا منخفضة و أن اليهود الاسبان عندما هربوا من محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس جاؤا و سكنوا فيها و أطلقوا على المنطقة اسما اسبانيا .

و أنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى بأنها كلمة سوريانية تعني بيت الطهارة ، فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني ، ولا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح ( بمعنى أفشى ) أو بكلمة باحة ( بمعنى ساحة ) . 

في تفسير سماح الدولة العثمانية بدور البغاء المرخصة 

حرت في الاسباب التي سمحت بموجبها السلطنة العثمانية ( التي كانت تستند في كافة قوانينها على الشرع و على موافقة شيخ الاسلام و على المذهب الحنفي ) بالترخيص الرسمي لدور البغاء في كافة أرجاء السلطنة علما أن هذه الرخصة منحت زمن السلطان عبد الحميد عام 1898 م اي قبل فترة حكم جماعة الاتحاد و الترقي المتهمين بانتمائهم لليهود الدونمة .

و أعتقد ان هذا القانون صدر بالاعتماد على الفتوى  التي صدرت عن الأمام ابو حنيفة و الشهيرة ب ( درء الحد عن واطئ المستأجرة) و التي وجدتها في كتاب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " للامام القاضي ابن رشد القرطبي - باب حد الزنى ، علما أنه قبل افتتاح المحل العمومي في بحسيتا بمراقبة السلطنة العثمانية كانت المنطقة المسماة " كرم الكسما "و التي كانت تقع بالقرب من قشلة الترك ( التي تسمى حاليا ثكنة هنانو ) هي المكان الذي يلجأ اليه رواد تلك الاماكن لممارسة البغاء السري و يبدو انها كانت قريبة من ثكنات الجنود العثمانيين  لأنهم كانوا من أكثر روادها و يبدو ان السلطنة لجأت للترخيص الرسمي مع الرقابة الصحية منعا من تفشي الظاهرة دون رقابة مما قد يؤدي لتفشي الامراض و درءا لأذى هؤلاء الجنود لسكان المدينة .

نتابع في هذا الجزء استعراض حياة ذلك المجتمع الغريب و حكاياته  

من المتعارف عليه دخول الرجال مجانا للمحل العمومي في بحسيتا  ، للفرجة فقط على الفتيات في ارض الديار ، و يسمى هؤلاء ( حييكة ) و تسألهم الباترونة في صيغة تحريضية هل انتم ( حييكة أم ..... ) 
السيفونجي 
 
أحيانا تقع الفتاة في هوى رجل فتستقبله  مجاناً ، و غالباً بعد منتصف الليل  ، و ينبغي على الفتاة التعويض على القوادة من مالها الخاص . 

الرجل الذي تقع الفتاة في هواه و يقع في هواها ، تقيم له حفلا يسمى  البالو ( و يبدو أن الاسم مشتق من كلمة ball التي تستعمل في الانكليزية و تعني حفلة راقصة مختلطة ) ، تدعو إليه صديقاتها من المومسات و يدعو هو بعض أصدقائه - إذا شاء - و تصبح محرمة على أصدقائه كما يصبح هو محرما على صديقاتها .

و يتحول  هذا الرجل الى متردد دائم عليها و يقوم بحمايتها و مبادلتها الهوى ، و تقوم هي بالإنفاق عليه إذا شاء ، و أطلق الحلبيون على  هذا الرجل  لقب السيفونجي ، و قد كان محتقراً جدا في المجتمع، و لقبه مشتق من الكلمة الفرنسية ( سيفون ) و التي يطلقها الحلبيون على  مجرى تصريف  المياه الوسخة .

و قد يتورط أحد شباب العائلات المعروفة بقصة حب مع فتاة من المحل العمومي فيطرده أهله و يمنعوا عته المال ، فيتحول الى سيفونجي .

قصة  الفتاة " كاترينا" اليونانية  

روى لي قاضي متقاعد حقق في قصة كاترينا اليونانية عندما كان نائبا عاما ، التي قام أحد الأشرار بقطع يدها ، لنزع مصاغها الذهبي منها بعدما لم يستطع إخراجه من يدها ،  ففقدت وعيها و نزفت ، حتى وصل دمها للطابق الأرضي فحُملت للمشفى ، و في بادرة إنسانية أغلقت الفتيات المحل العمومي و توجهن جميعا للتبرع بالدم لكاترينا.

و في خطوة نادرة و غريبة تُبين و جود الشعور الديني عند فتيات المحل العمومي التعسات ،و تأثر بها بشدة القاضي الذي روى لي الحادثة ،   اقترحت إحداهن إقامة مولد نبوي شريف على  نية شفائها ، و فعلا جلبت حميدة ، عدة قراء من العميان الذين يتواجدون في ساحة الجامع الأموي لإقامة المولد ، و تحجبت جميع الفتيات ، المسيحيات منهن و المسلمات ، و أقمن مولدا على هذه النية ، و لكن كاترينا فقدت الحياة من شدة النزيف.
 
و كانت بعض الفتيات يصمن في شهر رمضان و يصلين و يتوقفن عن العمل حتى أول أيام العيد .

يحكي الحلبيون عن كثير من الرجال أحبوا فتيات من داخل المحل العمومي ، و تبنّ على أيديهم و تزوجوا منهن فأخْرَجَوهم من دار البغاء ،  بشرط ان يقدموا تعهداً للسلطة و على مسؤوليتهم بعدم عودة زوجاتهن للدعارة ، متحدين بذلك كل أعراف المجتمع ، و يروى عن هؤلاء الزوجات أنهن تبن توبة نصوح و كن خير أمهات لأولادهن  ، و كانت كل الفتيات في المحل العمومي يتمنين هذا المصير .

كما روى لي أحد المحامين المتقاعدين قصة غريبة عن فتاة كانت تُعرف بأنها تخاف من حلف اليمين – سواء يمين صادق أو يمين كاذب – فهي لا تحلف يمين أبدا ، و قد عُرف  هذا الأمر عنها ، فقام رجل محتال جشع بإقامة دعوى عليها زاعما أنها استدانت منه مبلغ مائة ليرة سورية ، و عندما أنكرت الفتاة أمام القاضي دعاها المحتال الى حلف اليمين بأنها لم تستدن ، فرفضت وفقا لمبدئها ، و قام القاضي بإلزامها بدفع المبلغ .

و بعد فترة كرر هذا الرجل الأمر ، و دعاها مرة أخرى لحلف اليمين ، فنصحها البعض بشرح حقيقة الأمر للقاضي ، الذي تأكد من الأمر ، و ألزم المحتال بإعادة المبلغ القديم و هدده بالحبس ان كرر ذلك .

و روى لي قاض متقاعد آخر دعوى عرضت عليه ، قام فيها أحد الشبان بالاتفاق مع امرأة من المنزول على التوبة و الزواج منها بعد أن تشتري بيتا من مالها الخاص ليكون بيت الزوجية ،و اصطدمت المرأة برفض أصحاب البيوت بيعها أي شقة كانت لأنها معروفة منهم ، فاضطرت الى إرسال هذا الرجل لشراء الدار و تسجيل ملكيتها باسمه ، و بعدما فرشتها و جهزتها من مالها الخاص فوجئت به يغير أقفال المنزل ، و يتزوج فيه من غيرها .

فما كان منها إلا ان راجعت القضاء للحصول على حقها ، فوقف أغلب الناس في صف هذا الرجل و رفضوا مساعدتها في استعادة حقها .

حتى وصلت الدعوى الى محكمة قاض معروف ، اشتهر زمنها بالنزاهة و الشرف ، و قد توسط الكثيرون لدى هذا القاضي لمصلحة الشاب ضد الفتاة  ، باعتبارها مومساً و مالها مالا حراماً ، مباركين فعل سلب الشاب لحقوقها،  لكنه لم يستجب لهم و أجبر الشاب بعدما تأكد من صدق روايتها على إعادة المنزل لها ، ، و يذكر الكثيرون دخولها المحكمة ، و تقبيلها الأرض بين يدي ذلك القاضي ، رافعة يديها بالدعاء له ، و هي غير مصدقة إنصافه لها .

 كان أهالي البغايا أحيانا يقتلن البغي عندما يعلمون فجأة بمكانها و بعملها هذا ، بعدما تكون قد هربت من بلدها لأسباب مختلفة ، و وصل بها الأمر الى المحل العمومي ، و أحيانا كانت تقوم بهذا العمل بعلم أهلها و تمدهم بالمال من شدة فقرهم ، و قد يقوم احد أفراد عائلتها بقتلها إذا ما توقفت عن إمدادهم بالمال .

حدثني قاض متقاعد ثالث عن دعوى عرضت عليه ، قصتها أن فتاة كانت تعمل هناك ، و كان  أخوها يقوم بزيارتها للحصول على مصروفه منها ، و بعد مضي عشر سنوات  تقدمت الفتاة في السن ، و قل روادها و بالتالي قل واردها المادي ، فلم تعد تعطي أخاها نقودا ، فقام بقتلها انتقاما منها ، و قد دافع المحامي الذي توكل عن الأخ بأن القتل كان بدافع شريف ، و قد حكمت محكمة الجنايات بإسقاط العقوبة عته بأكثرية مستشارين بمواجهة المستشار الثالث و هو القاضي المذكور ، الذي رفض اعتبار الجرم انتقاما للشرف ، و طلب تشديد العقوبة على الأخ لأنه أمضى عشر سنوات يستغل شقيقته ، و لم يستيقظ شرفه إلا بعد ان أوقفت الأموال عنه ، وروى لي بمرارة أن محكمة النقض حينها أيدت رأي المستشارين و حكمت بأن القتل لدافع شريف و أعفت القاتل من العقوبة  ، و عللت أن دافع الشرف قد يفاجىء الإنسان في أي وقت و لو جاء متأخرا   .
قصة الفتاة " عتاب " 

في أواخر أيام المحل العمومي اشتهرت قصة الفتاة عتاب ، التي كان أخوها الأول يعمل معها في  المنزول ، و قام أخوها الثاني  الذي كان موقوفا في السجن - لجريمة ارتكبها -  فور إطلاق سراحه ، بذبحها ، و العودة ثانية للسجن . 

صدور قانون يمنع دور الدعارة المرخصة 

في عام 1958 ، أيام الوحدة بين مصر وسورية ، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القانون رقم 10 للقطرين السوري و المصري ، قضى هذا القانون بإلغاء البغاء وإغلاق كل دور الدعارة .

و عاقب القانون في حينه كل مدير للمحل العمومي يستمر بالعمل ، بالحبس لمدة تصل حتى أربع سنوات ، و قد نص القانون أن على وزير الشؤون الاجتماعية والعمل  إيداع البغايا المرخص لهن من تاريخ العمل بهذا القانون بمؤسسة خاصة ، وللمدة التي يراها مناسبة لتأهيلهن لحياة كريمة وتدريبهن على الكسب الشريف . 
من  غرائب القانون المذكور ، الذي ألغى ترخيص بيوت الدعارة -علما انه القانون  الساري حتى يومنا هذا -  ان الرجل لا  يعاقب بأي عقوبة في حال ضبط مع فتاة دفع لممارسة الدعارة معها ، بل تعاقب الفتاة فقط .

أما عقوبة من يسهل الدعارة و هي القوادة أو القواد  الحبس  حتى ثلاث سنوات ، ويحكم بإغلاق المحل ومصادرة الأمتعة والأثاث الموجود به ، و في حال قام هؤلاء بإكراه و إجبار الفتاة على الدعارة او استقدموا المومسات من خارج القطر ، يكون الحبس حتى خمس سنوات .

و في حال استخدم القوادون فتاة قاصراً عمرها  دون السادسة عشر  ،تشدد عقوبتهم و تصل حتى الحبس لسبع سنوات.

و في حال كان من يسهلون دعارتها أبوها أو شقيقها او زوجها ،سواءاً كانت قاصراً أو غير قاصر ، تشدد عقوبتهم كذلك ، و  تصل حتى الحبس سبع سنوات  .

أما مالك أو مؤجر بيت الدعارة ، الذي سلمه لقواد يديره و هو عالم بنشاط البيت ،  فيعاقب بالحبس من  ثلاثة أشهر  و حتى ثلاثة سنوات .

أما  الفتاة التي تمارس الدعارة و تعتاد عليها و يتم ضبطها عدة مرات ، فتعاقب بالحبس من ثلاثة اشهر و حتى ثلاث سنوات ، و تتهج أغلب المحاكم حاليا بتطبيق الحد الأدنى للعقوبة و هو ثلاثة أشهر .

لم ينفذ هذا  القانون  عند صدوره إلا لجهة توقف السلطة عن إيداع الفتيات اللواتي يقبض عليهن بجرم الدعارة في المحل العمومي و بالتالي بقيت الفتيات القديمات فيه و لم تعد ترد اليه فتيات جدد ضبطن بممارسة الدعارة السرية .

خلال سنوات.. تم ترحيل الفتيات الباقيات في المحل العمومي و اللواتي لم يكن يحملن الجنسية السورية ، و بذلك تناقص عدد الفتيات تدريجيا ، و كبرت المتواجدات في المحل العمومي في السن .

لغاية عام 1974 كان عددهن قد أصبح  قليلا ، و أصغر النساء سنا قد تجاوزت الأربعين .

هدم  " المحل العمومي " 

بعد أربعة و سبعين عاما من افتتاحه ، قررت بلدية حلب هدم منطقة المحل العمومي ، في إطار مشروع تحسين منطقة باب الفرج.

و فعلا هُدم المنزول ، و ما زال مكانه خراباً حتى هذا التاريخ ، و تفرقت  المومسات إلى أماكن مختلفة في المدينة ، منهن من تابت ، و منهن من استمرت في ممارسة الدعارة السرية في بيوت سرية .

و انتقلت بعضُ منهن الى مدن بعيدة لتجنب الاقتراب من أهلهن ، مثل مدينة دير الزور ، و مدينة القامشلي التي سمي  المحل العمومي فيها باسم (البيت الأبيض) .

أخيرا  أقول : 

سمعت تعليقا كرره الكثيرون  أمامي عند جمعي لمعلومات هذه الدراسة ، و لا أدري فيما إذا  كانوا محقين به   : ( من زمان كان الوضع أفضل ..فقد  كانت الدعارة محصورة في المحل العمومي في حي بحسيتا ، أما الآن فقد صارت قرب بيوتنا ، في العديد من الأحياء ، و في المنازل الخاصة و المزارع المقامة في الضواحي).
 

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة