تاريخ بحسيتا الجزء الأول

ما ذُكرت بحسيتا أمام حلبي ، إلا و ابتسم ،  أثار هذا الأمر فضولي ،و بما ان جيلنا لم يعرفها ،و الجيل السابق الذي أدركها يتجنب الحديث عنها ، و كلما سألت كبار السن عنها نفوا في البداية و بشدة معرفتهم المباشرة بها ، ثم تدريجيا يتبسطوا و يسترسلون في الحديث عنها ، و يشيرون بحذر أنهم ربما زاروها مرة او مرتين للإطلاع على ما فيها فقط ، ثم و بصوت منخفض - مع تحذيري من نقل ما يحكونه عنها على لسانهم - يروون مغامراتهم فيها .

و بما أنها تعد جزءا من تاريخ بلدنا ، و التاريخ تاريخ ،سواء كان سلبيا او ايجابيا ، و لم أجد في أي مرجع دراسة لتاريخ هذا المكان ، الذي قل من امتنع عن زيارته في ذلك الزمان ، حسبما تبين لي ، و لأهمية المؤشرات الأخلاقية و الاجتماعية التي يكشفها تاريخه ، و التي أترك تقديرها للقراء ،  قمت بجمع المعلومات عنه من شفاه من عاصروه ، و ها أنا أقدمها لكم في مقالتي هذه :

مع بداية القرن العشرين - زمن الحكم العثماني - قرر رئيس بلدية حلب افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب ، أسوة بباقي مدن السلطنة العثمانية ،كما ذكر الطباخ في كتابه أعلام النبلاء ، و كان الهدف منها حصر و تنظيم عمل الفتيات في هذا المجال  منعا من تواجدهن في مختلف الأحياء و فرض رقابة صحية عليهن ، و انقسم الناس حينها بين مؤيد لفكرة  حصر الدعارة في أماكن محدودة ، و معارض بشدة للترخيص الرسمي لها ..

و لكن ترخيص الدعارة في أماكن محددة محصورة لم يمنع  انتشار هذه الظاهرة بشكل سري، و المرأة التي كانت تمارس الدعارة بدون رخصة خارج البيوت الرسمية المخصصة لها،  كانت تعاقب بالحبس ، و في حال ضبطت مرة ثانية او ثالثة  تجبرها السلطات المختصة على الإقامة الإجبارية في دور الدعارة المرخصة.

و تقرر إقامة بيوت الدعارة المرخصة في حلب -  التي أطلق عليها اسم المحل العمومي - في شارع بحسيتا ،التابع لحارة القلة ، قرب ساعة باب الفرج الحالية .

و كان أغلب سكان حارة القلة و بحسيتا قبل افتتاح المحل العمومي من العائلات  اليهودية ، و قد حدد مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه نهر الذهب  عدد سكانها اليهود بحوالي أربعة ألاف شخص في العشرينيات ، و اشهرهم آل جدّاع , آل نحمات , آل ساسون , وآل دويك ، الذين انتقل الأغنياء منهم  للإقامة في محلة الجميلية تجنبا للإقامة قرب بيوت الدعارة  . 

أما معنى اسم بحسيتا فقد أورد الغزي عدة آراء حول معنى الاسم ، و رجّح أخيرا ان بحسيتا مركبة من كلمتين : أولاهما بيت و التي  تختصر في السوريانية بحرفي ( با ) فقط مثل أسماء المناطق  السوريانية الأخرى ( بانقوسا و تعني بيت الناقوس ، باريشا و تعني بيت الريس و غيرها ) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة ، و بذلك يكون معناها بيت الطهارة و المغفرة .

 ويقول الغزي : (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس  ،يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم ) 

أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر أورده الغزي فيما أورده من آراء ، و هو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا ، وان شخص اسمه  سيتا باح بسر ما ، و افترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح و لهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته . 

و هناك رأي يقول ان سيتة هو اسم منطقة من اصل سورياني ، و ان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه ، و بدمج باحة مع اسم سيته كانت  بحسيتا .

و أنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى  فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني ، و لا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح ( بمعنى أفشى ) أو بكلمة باحة ( بمعنى ساحة ) . 

و شارع بحسيتا هو شارع مستقيم بطول ثلاثمائة متر تقريبا ، على جانبيه كانت توجد الدكاكين التي تبيع غالبا المشروبات الروحية ، و في منتصف الشارع جهة اليمين يوجد مدخل صغير يؤدي الى زقاق المحل العمومي .

و سابقا كان في الزقاق  الذي أقيم فيه  المحل العمومي قبل ترخيصه  ، مضافة للعموم ، و يطلق العامة على بيوت الضيافة اسم المنزول ، و هي من كلمة ( نزل ) الفصحى ، فيقال مثلا : (حللت أهلا و نزلت سهلا )  ، و عادة كان الأثرياء و الباشاوات و الآغوات ينشئون مكانا مخصصا لإقامة الأغراب و ضيافتهم مجانا ، و يسمى في الأرياف ( الاوضة ) .

 و بعدما تحول هذا الزقاق  الى  مكان للدعارة ، صار اسم المنزول لدى الحلبيين مرتبطا ببيوت الدعارة ، بينما يستخدم أبناء بقية المحافظات هذا الاسم للإشارة الى المضافات ، كما يستعمل الحلبيون كلمة كرخانة للدلالة على بيوت الدعارة ، و هي كلمة تركية تعني ( الخان الأسود ) و الخان طبعا هو الفندق .

وكان المحل العمومي الذي تم ترخيصه للدعارة  ، مؤلف من مدخل ضيق  يحمل رقم 142 في لوحة معلقة على جداره ، و لذلك اشتهر هذا الرقم كرمز للمنزول .

و  تنفذ من المدخل الى زقاق ضيق  ، على طرفيه  مجموعة من الدور العربية، لكل دار  ارض ديار ( حوش ) و عدة غرف موزعة حوله ،  لبعضها غرف علوية ( مربع ) ،و في نهاية الزقاق منفذ آخر له باب مغلق لا يفتح إلا في أحوال خاصة .

و قرب المحل العمومي كانت توجد حمام عامة تحمل اسم حمام الهنا ، و قد خصصت أوقات محددة فيها لفتيات الكرخانة  ، و قد هدمت الآن .

 و قرب  المنزول مشفى خصصته الدولة لفحص الفتيات و لمعالجة الأمراض التناسلية كمرض الزهري و السفلس  ،و في الأربعاء من كل أسبوع ، تخرج الفتيات من الباب الخلفي للزقاق المخصص لهذا الأمر ، ليقمن بزيارة الطبابة الشرعية - التي كانت قريبة من المنزول - لإجراء الفحص الدوري ، و في حال تبين إصابة أي منهن بمرض ما ، تعزل و تحجر حتى تتماثل للشفاء  ، في المستوصف القريب من المنزول و توجد فيه غرف تشبه الزنزانات  ، كما تحجر الفتيات فيه طوال فترتهن النسائية الشهرية ، لمنعهن من العمل خلالها  .

و كانت الفتيات تلجأن لكي الرحم منعا من حصول الحمل ، و الى الإجهاض في حال تم حدوثه ، فقد كانت تربية الأطفال ممنوعة داخل المحل العمومي .

و في مدخل المحل العمومي  غرفة صغيرة تتواجد فيها دائما مفرزة من عنصرين او ثلاثة من رجال الشرطة  ،  لمنع دخول الأحداث والأطفال والقتلة من أقرباء النزيلات الذين يريدون غسل عارهم ، وللشرطي في المنزول  أهمية عظمى ، فهو يمنع إدخال الأسلحة والسكاكين والمشروبات ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة .

و يصدف أحيانا أن يعين شرطي متساهل ، فيتقاضى مبلغ  بحدود الربع ليرة سورية - ارتفعت لاحقا الى ليرة واحدة - لغض النظر عن الشبان القاصرين الذين دون السن القانونية و الراغبين في دخول المنزول .

و أمام مدخل المنزول مباشرة يوجد مسرح ضخم لتقديم العروض الفنية ، مؤلف من ثلاث طوابق ، توجد على واجهته الحجرية كتابة قديمة  هي ( قهوة السلام ) ، و قد اشتهر أخر أيام المنزول باسم مسرح غازي .

 و قد كان يطلق على المسارح قديما اسم القهوة ، كقهوة البرتقال الشهيرة بحلب و هي عبارة عن مسرح مغلق ، و كانت الفتيات اللواتي يملكن مواهب فنية يقدمن عروضا فيه .

أما المنزول فتقيم فيه عشرات الفتيات من مختلف الأعمار و الجنسيات، و معظمهن غريبات و من خارج المدينة ، فلا تضع السلطة  فتاة من ذات المدينة في منزول المدينة ، لأنها تتعرض للقتل فورا من قبل أفراد عائلتها .

و السبب الأكبر الذي كان يدفع الفتيات للدعارة ، و من ثم الإقامة الجبرية في المحل العمومي بعد القبض عليهن ، هو الفقر و الجهل و الظروف الاجتماعية و العائلية السيئة ، و أغلب المومسات خاليات من الجمال ، فمن كانت تملك جمالا لا تحتاج الى ممارسة البغاء لتعيش و غالبا ما تتزوج لجمالها .

 و كانت المشروبات الروحية ممنوعة بشكل رسمي تجنبا للمشاكل التي يثيرها السكارى ، و لكن كانت بعض الزجاجات تتسرب للداخل ، كما تقدم المطاعم المحيطة بالمحل العمومي أنواع اللحوم المشوية الى داخل المحل .

و لا يجوز أبدا إخراج الفتيات من المحل العمومي الى منازل المدينة الخاصة ، و يحق للفتاة يوم إجازة أسبوعي هو يوم الاثنين فكانت الفتيات - في فترة بعد الظهر - ترتدين لباسا محتشما و يغطين وجوههن منعا من إثارة التعليقات ، لأنهن معروفات من اغلب شباب المدينة ، و يركبن الحنتور مع رجال مفضلين لديهن لحضور السينما .

و في حال كبرن في السن ينقلن الى منزل قريب يسمى  المنزول العتيق ، حيث يمضين ما تبقى من حياتهن في عوز و فاقة بالغين. 

و كان أغلب رواد المحل العمومي من الشباب العازبين و المراهقين و من العساكر و الوافدين الغرباء عن المدينة.

و كان للعساكر يوم خاص هو الخميس مساءا ، من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءا ، و تم تغييره لاحقا الى يوم الجمعة ، و لهم تخفيض خاص في السعر يصل حتى النصف ، و يأتون برفقة عريف و يصطفون بالدور برتل عسكري ، و قد يصل الدور الى عشرات الأمتار ، و تستبدل يومها مفرزة الشرطة التي تحرس مدخل المنزول بعناصر من الشرطة العسكرية. 

و في الأربعينات كانت هناك ثلاث تسعيرات متعارف عليها ، و هي ليرتين ، و ثلاث ليرات ، و خمس ليرات ،  تبعا لعمر الفتاة و مستوى جمالها ، و قد زادت هذه التسعيرة لتصل الى إحدى عشر ليرة في أواخر أيام المحل العمومي .

و يمضي الشاب مع الفتاة  فترة قصيرة لقاء هذا المبلغ لا تزيد عن ربع ساعة ، و في حال رغب بتمديدها لمدة ساعة كان عليه ان يطلب فنجان قهوة و يدفع ثمنا له ليرة كاملة .

و بعد وصول الكهرباء للمنطقة ، وضُع في أرض حوش كل دار آلة كهربائية لإذاعة تسجيلات الاسطوانات ، فيضع الرجل ربع ليرة سورية فيها ، و ينتقي الاسطوانة التي تحمل الأغنية التي يفضلها ، لتدار آليا .

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة