عبد الناصر وسامي صائم الدهر

سأل الحاج سامي صائم الدهر ضيفه عبد الناصر عندما نزل في منزله بحلب عن الإشاعات التي تناقلها الناس بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي عن موضوع النية بتأميم المصانع .

وقال له : إنني أنوي توسعة مصنعي فإن كانت هناك نية بالتأميم فأرجو أن تخبرني لئلا أقوم بالتوسعة .

 فأكد له عبد الناصر : أنه لا تأميم..و ليقم بتوسعته وأنه سيدعمه وسيدعم الصناعيين الآخرين لتوسعة معاملهم ….

بعد أشهر قليلة صدر قانون التأميم .

سلطنا الضوء في مقالة ( التأميم يا فرحة ما تمت ) على تاريخ النهضة الصناعية بحلب في مطلع القرن العشرين و تأثير التأميم عليها ،  في هذا الجزء نسلط الضوء على تجربة صناعية ثانية لا تقل عن التجربة الاولى أهمية .

ولد الحاج سامي صائم الدهر في عام 1897م في منطقة جب أسد الله بالقرب من حي العقبة بحلب.

 والده إبراهيم كان تاجراً للحرير الأغباني والشال والزنار الهندي يقوم بشراء خيوط الحرير وإرسالها إلى عمال الأنوال اليدوية لينسجوها نسيجاً حريرياً ثم يرسلها إلى العاملات لتطريزها يدوياً، ثم تصدّر إلى بلاد الحجاز لبيعها خلال موسم الحج بسعر خمس ليرات ذهب لكل شال .

وفقا لعادات ذلك الزمن في الزواج المبكر لكلا الزوجين، تزوج الحاج سامي وهو في السابعة عشر من عمره زوجته التي كانت قد بلغت من العمر أحد عشر عاماً.

في صباح اليوم التالي لعرسه ، ذهب إلى محل والده في الصباح الباكر متأخراً نصف ساعة عن موعده اليومي ، فأنّبه والده بشدة على هذا التأخير فأجابه: إنها صباحية عرسي ، قال له أبوه : التزامك بعملك أهم من أي شيء آخر يجب أن تكون دقيقاً في مواعيدك لا تكرر ذلك .

كانت هذه الكلمات هي مفتاح نجاح الحاج سامي صائم الدهر في حياته العملية.

 استمر الفتى سامي صائم الدهر في تصدير الشال الحريري إلى بلاد الحجاز بعد تصنيعه في حلب وكان يسافر إلى هناك سنوياً وحجّ إلى بيت الله الحرام خلال سفره اثني عشرة مرة .

استقل بعمله عن عمل والده و فتح محلاً في سوق المدنية في محلة وراء الجامع الكبير لبيع بضاعته و استأجر بيتاً مستقلاً عن بيت والده في حي الفرافرة.

 كانت زوجته تساعده في تحضير القماش الحريري الذي يكون بالأساس أبيض اللون  بإكسابه اللون السكري، عبر تغطيس شالات الحرير لمدة محددة في بركة صحن الدار بعد مزج ماء البركة بالقليل بما يسمى ماء الكذاب (هو مادة كيماوية تؤثر على الحرير فإن طال التغطيس اهترأ الحرير) .

استطاع الحاج سامي أن يجمع بالإضافة الى المال الذي حصل عليه من والده ما مجموعة أربعمئة ليرة ذهب عثمانية هي رأس المال الذي بدأ به عمله الصناعي .

أول  عرض لأنوال نسيج كهربائية في حلب

في عام 1929 كان هناك في حلب حوالي ستة الاف نول نسيج يدوي ( تنسج القطن و الحرير الطبيعي و الصناعي و نسيج الحرير و القطن معا ) يعمل عليها و على إتمام ما تنتجه من نسيج ما يزيد على ثمانية و عشرين ألف عامل ( كان عدد سكان المدينة يقدر بحوالي مائتي ألف نسمة ) فاذا كان كل عامل يعيل ما معدله خمسة أشخاص أي ان أكثر من نصف السكان يعتاشون على دخل  صناعة النسيج بحلب .

استورد التاجر الحلبي شوكت عزيز في العام 1922 أنوالاً حديثة لصناعة النسيج من ماركة ( دييدريش سانت كولومب ) الفرنسية نصبها للعرض في سوق الدهشة قرب الجامع الاموي الكبير في حلب.

شاهدها الحاج سامي، و أدرك ان المستقبل لهذه الانوال ، و أن الانوال اليدوية التقليدية الى زوال.

لكن لم تكن الكهرباء قد وصلت للمدينة و كانت كلفة توليد الكهرباء بمحركات الديزل لتشغيل هذه الأنوال مرتفعة .

قرر سامي صائم الدهر بعدما وصلت الكهرباء لحلب عام 1928 أن يذهب بنفسه إلى مصنع آلات النسيج العائد للشركة التي شاهد أنوالها، وهو  معمل دييدريش بورجوان في مدينة ليون الفرنسية ، و يطلع على الآلات الحديثة.

سافر لفرنسا مع قريب له يتقن الفرنسية لأنه لم يكن يعرف تلك اللغة ، واطلع على آلات النسيج في هذا المصنع و طريقة عملها و أتقن العمل عليها .

تعاقد على شراء أنوال ميكانيكية كهربائية لنسج الحرير بدلاً من الأنوال اليدوية القديمة .

معمل صائم الدهر الأول في الجميلية

عاد الحاج سامي بعد هذه الزيارة  إلى حلب ليؤسس بعد فترةٍ وجيزةٍ  نواة أول معمل للنسيج في منطقة الجميلية على ارض اشتراها ( جانب صالة معاوية الحالية  بمساحة حوالي 2000 متر مربع )  بنى عليها طابق أرضي وضع فيه الآلات ثم بنى فوقه لاحقاً طابقين لسكنه .

تألف معمله الأول من  ثمانية عشر نولاً حديثة تعمل محركاتها على الكهرباء ، قام صائم الدهر بتأهيل النساجين التقليديين للعمل عليها، وكانت تلك أول دورة تدريبية على التقانات الحديثة في صناعة النسيج في تاريخ الصناعة السورية.

غدا صائم الدهر الوكيل الحصري للماركة الفرنسية النسيجية لآلات سانت- كولومب في العام 1930 ، وأكبر مستورد حصري للخيوط الصناعية.

تخصص معمل الحاج سامي بصناعة نسيج الساتان وكريب جورجيت و هي من الحرير الصناعي كما صنع المنسوجات القطنية و الصوفية أحيانا .و ألحق بالمعمل مبنى خاص لكي القماش باستعمال الفحم وبآلات معدنية يدوية.

كان شريكا معه في العمل شقيقه الأصغر الحاج عبد القادر صائم الدهر .

أرباحه في الحرب العالمية الثانية

ما أن بدأت الحرب العالمية الثانية عام  1939 م حتى انقطعت طرق الشحن التجاري و ارتفعت اسعار المواد الأولية ، كان الحاج سامي مغامراً جريئاً فاستبق الأحداث و اشترى كميات كبيرة من  المواد الأولية من الخيوط الحريرية و القطنية وغيرها قبل الحرب بينما لم يقدم غيره على هذه المغامرة، فعندما تلوح نذر الحروب يحتفظ التجار عادة بأموالهم سائلة.

 حقق الحاج سامي نتيجة مغامرته تلك ربحاً كبيراً  خلال أيام  الحرب .

في تلك الفترة  طلب شقيقه الأصغر الحاج عبد القادر الذي لم يكن مغامراً مثله بل تاجراً تقليدياً رصيناً ، أن يكون له معمل مستقل ، فانفصلا بعدما اشترى الحاج سامي قطعتي أرض، واحدة له وأخرى لأخيه، وأنشأ معملين منفصلين في منطقة الفيض ( حاليا يستعمل البناء كمستودعات للتبغ ) .

استورد الحاج سامي لمعمله الجديد أنوالاً حديثة بالإضافة للأنوال التي كانت لديه فبلغت حوالي 21 نولاً.

عضويته في غرفة التجارة و تأسيسه غرفة الصناعة

انتخب الحاج سامي عضوا في مجلس إدارة غرفة تجارة حلب في 13 ايار 1931 بصفته تاجراً للنسيج في محله وراء الجامع الكبير، و بقي عضواً في مجلس الادارة  حتى عام 1935 .

أسس غرفة صناعة حلب عام 1935 و أنتُخب رئيسا لمجلس ادارتها و بقي في منصبه هذا يعاد انتخابه المرة تلو المرة حتى عام 1964 .

تبرعه بثمن طائرة للجيش الانكليزي

خلال الحرب العالمية الثانية في عام 1941 دخلت القوات الانكليزية مع قوات ديغول لحلب ، قام الجيش الانكليزي – بهدف شحذ همم المواطنين و استعراض قوته بعدما توالت هزائمه أمام الجيش الألماني في بداية الحرب- باستعراض جوي بهلواني لطائراته في الجو.

تجمع المشاهدون في الأراضي الزراعية الواقعة في بداية طريق الشام الحالي ( خلف معهد حلب العلمي، مدرسة الأمريكان ) .

طلب الجيش من المواطنين دعم القوات الانكليزية في حربها مع الألمان ، فقام الحاج سامي بالتبرع بمبلغ خمسون ألف ليرة سورية ، و هو كلفة طائرة انكليزية واحدة من نوع سبيت فاير ( باصقة النار )  وهي الطائرات التي واجهت الطائرات الالمانية من نوع ( شتوكا )، و قام بذلك أيضا الحاج وهبي الحريري و تم عرض الطائرتين في ساحة سعد الله الجابري .

انتخابه نائبا في البرلمان السوري

اعتُبر الحاج سامي صائم الدهر خلال مراحل الانتداب الفرنسي من رجال الكتلة الوطنية وما أن نالت سوريا استقلالها و تم الجلاء عام 1946 حتى انتُخب نائباً في مجلس النواب السوري وبقي فيه حتى انقلاب حسني الزعيم عام 1949م.

حقق معمل الفيض أرباحاً كبيرة فخيّر الحاج سامي زوجته أن يبني لها قصراً أو يبني لها معملا جديداً فاختارت معملاً جديداً، و قالت له : المعمل يعطي قصورا عدة لا قصراً واحداً، أما القصر فلا يعطي معاملا  .

لاستكمال تجهيز معمله الجديد  أرسل ابنه الأكبر شوقي عام 1948 لألمانيا لشراء مصبغة وآلة طباعة على القماش  والتدرب عليها بعدما قرر تجهيز معمله الجديد بالمغازل والأنوال وصار بحاجة إلى مصبغة ليكون انتاجه متكاملاً من الخيط حتى النسيج المصبوغ .

اشترى قطعة أرض في منطقة بلليرمون بمساحة تزيد عن 50 ألف متر مربع وبنى عليها معملاً حديثاً فيه محطة لتحلية المياه ومحطة لتنقية الهواء ، و استورد مغازل للقطن بلغ عددها ستة آلاف مغزل، ووضع فيه أنوال النسيج بلغ عددها  143 نول ، وآلات للصباغة وكي القماش وصقله . 

استورد الخيوط الصناعية كالحرير الصناعي والبوليستر إضافة للخيوط الطبيعة المحلية والأوربية .

افتتح المعمل الشاعر الكبير عمر أبو ريشة صديق الحاج سامي في بداية الخمسينات وكان حينها بمنصب السفير السوري في النمسا.

 أنشأ الحاج سامي حول المعمل حدائق واسعة كان يقول أنها لتأمين الراحة والهواء النقي للعمال.
و هو أول من ألزم عماله بارتداء الكمامة حفاظاً على صحتهم من استنشاق زغب القطن . يروى أن المعمل كان  يشابه أبنية المشافي من شدة نظافته .

 بلغ عدد العمال حوالي أربعمئة عامل كانت علاقتهم ممتازة بالحاج سامي وكانوا يحيطون به دائما ويقدم للعديد منهم المساعدات والمعونات.

 الحاج سامي صائم الدهر وسط عمال معمله و هم يحتفلون به

كان متواضعا في معمله يهمه الانفاق على صالات العمل و ألاته لا على مكاتب الادارة أو على مكتبه الشخصي .

كما عُرف عنه  تقييده لجداول شهرية بأسماء العائلات المستورة التي ينفق عليها سراً .

كانت الأرباح السنوية للمعمل تصل إلى أربعمئة ألف ليرة سورية في ذلك الزمن .

الحاج سامي صائم الدهر في مكتبه المتواضع في معمله بالليرمون

 زار الرئيس السوري شكري القوتلي المعمل كما زاره رئيس الجمهورية ناظم القدسي .

 وعندما كانت وفود من المغتربين السوريين تزور سورية، كانوا يصطحبونهم إلى معامل الحاج سامي صائم الدهر ليروا بأم أعينهم التطور الصناعي الذي وصلت إليه البلاد .

 المغتربون السوريون مع عائلاتهم يزورون معمل صائم الدهر للاطلاع على تطور الصناعة السورية

قصر صائم الدهر

في بداية الخمسينات حقق المعمل الجديد في البلليرمون أرباحا جيدة فقرر الحاج سامي بناء قصر مهيب .

اشترى قطعة أرض في منطقة جبل المحافظة ( الحديثة حينها ) على الطريق المحيط بالبلدة الذي كانت تخرج إليه السيارات للتنزه حول مدينة حلب و كان اسمه دورة حلب (هو الطريق الواصل ما بين مدرسة الأخوة إلى مشفى حلب إلى ساحة الجامعة وصولا إلى جامع الفرقان حالياً و ينتهي عند دوار الكرة الارضية ) .

اعترض سكان المدنية عبر الجرائد والصحف المحلية على أعمال إقامة الأبنية على طرف هذا الطريق على اعتبار أن هذا الطريق هو متنفس أهل المدنية والأبنية تحجب اطلالتهم على المدنية أثناء نزهاتهم، ولكن كان البناء في المدينة قد أخذ يتوسع نحو الغرب و تلك المنطقة ستبنى مع مرور الزمن .

استغرق بناء القصر سبع سنوات وكان مؤلفا من طابقين تحيط به حدائق واسعة ( يقع قرب القنصلية الروسية حاليا ) .

  واجهة قصر صائم الدهر في منطقة المحافظة بحلب

  أنفق الحاج سامي على كسائه الكثير،  فُرشت الأرضيات بالرخام الأبيض الشفاف الناصع ووضع مابين ألواح الرخام قضبان نحاسية صفراء لكي تمنع تحطم الرخام أثناء التمدد والتقلص بتأثير الحرارة،  وكانت تلك أول مرة تستعمل هذه التقنية في حلب .

عبد الناصر يقيم في قصر سامي صائم الدهر

جاء عهد الوحدة في عام 1958م، زار جمال عبد الناصر حلب للمرة الأولى في 16/3/1958 و نزل لمدة يوم واحد ضيفا على الحاج عبد القادر شبارق  أمام الحديقة العامة .

في زيارته الثانية لحلب في 18شباط 1959 مع ولي عهد اليمن الإمام البدر و الرئيس اليوغسلافي الماريشال تيتو ،  طلب محافظ حلب رفعت زريق من الحاج سامي صائم الدهر أن ينزل الرئيس جمال عبد الناصر و ولي عهد اليمن الإمام البدر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات مع الحرس الشخصي في قصر الحاج سامي .

و تمت استضافة الرئيس اليوغسلافي تيتو في قصر عبد السلام مدرس الذي تشغله نقابة المهندسين حالياً.

 قامت عائلة الحاج سامي بإخلاء الطابق الثاني من القصر، والبقاء في الطابق الأرضي .أقام عبد الناصر و صحبه  لمدة ثلاثة أيام في المنزل .

أعلنت زوجة الحاج سامي أنها لا تريد أن تطبخ و تقدم الطعام لعبد الناصر وصحبه خوفا من حدوث حالة تسمم فتتهم بمحاولة قتله .فقام مطعم فندق بارون بإعداد الطعام للوفد الرئاسي .

 عبد الناصر و تيتو و أكرم الحوراني و الحاج سامي صائم الدهر في منزل الحاج سامي

  روت لي السيدة أميرة ابنة الحاج سامي صائم الدهر ( مواليد 1929م)  أن عبد الناصر كان يستعمل موادا وأملاحا خاصة معطرة أثناء استحمامه من نوع  ياردلي الفاخرة وقد ترك عدة عبوات منها بعد رحيله ، فاحتفظوا بها خشية أن تطلب منهم لاحقاً.

 وجدوا بعد رحيله عشرات ( الأمبولات) الدوائية الزجاجية في غرفته و التي يبدو أنه كان يُحقن بها لمعالجة مرض السكري الذي أصابه .

كما قالت لي أنه لا صحة لما روي عن مأدبة أقيمت لدى آل صايم الدهر لعبد الناصر و استعملت فيها أدوات المائدة الذهبية .( ربما تكون تلك المأدبة أقيمت لدى آل شبارق و لكن لم  يتاح لي التوثق من ذلك من عدة مصادر ) .

فلم يكن آل صائم الدهر يملكون معالق وشوك ذهبية كما أكدت لي , وأصل القصة أن عبد الناصر وصحبه اعتقدوا أن قضبان النحاس الموضوعة في الأرضيات هي قضبان ذهبية و اعتقدوا أن مسكات الأبواب النحاسية الصفراء هي مسكات من الذهب الخالص .

كما روت لي أن احد رجال عبد الناصر عندما شاهد أرضيات الرخام البيضاء الناصعة قام برمي عقب سيجاره على الأرض ودعس فوقه وكانت الأرض مبللة قليلاً فبقيت بقعة سوداء على الرخام الأبيض لم تزل باقية حتى الآن .

كان رجال عبد النصر يستعملون ( البشاكير ) الفاخرة المطرزة التي قدمها أصحاب البيت لإكرام ضيوفهم لمسح أحذيتهم .

وروت لي ان الحارس الشخصي لعبد الناصر طلب من والدها ان يؤمن لعبد الناصر قميصا مناسبا لان قمصان عبد الناصر متسخة و هو يريد حضور صلاة الجمعة في الجامع الأموي الكبير و لا يوجد وقت كافي لغسلها و كيها،  فقدم له الحاج سامي قميصين من الحرير الطبيعي الفاخر، و تبين له في النهاية أن الحارس الشخصي اخترع هذه الحكاية كي يستولي على القمصان لنفسه دون علم عبد الناصر الذي لم يذهب للصلاة في الجامع الكبير .

حشود الطالبات تمر أمام قصر صائم الدهر لتحية الرئيس عبد الناصر

 صدور قرار التأميم

في 23 تموز عام 1961 صدر القانون رقم (118 ) بالـتأميم الجزئي لثلاث و عشرين شركة و مؤسسة في سوريا ، و شمل التأميم عدد أكبر منها في مصر  .

شمل التأميم نصف ملكية شركة الحاج سامي صايم الدهر   بينما كان الحاج سامي مع ابنته في مدينة ميلانو لشراء ورق خاص للطباعة على الأقمشة بعدما تم شراء مطبعة خاصة للطباعة من الورق على القماش.

ورد اتصال هاتفي للآنسة أميرة ابنة الحاج سامي يخبرها فيها القائمون على العمل أن قراراً صدر بالتأميم الجزئي من الرئيس جمال عبد الناصر شمل جميع المعامل الخاصة والشركات المساهمة وأولها معمل الحاج سامي صائم الدهر .

على ان يدير العمل موظفون معينون من الحكومة الى جانب أصحاب المعمل .

شمل التأميم سيارة الحاج سامي الخاصة، وهي سيارة كاديلاك سوداء كبيرة كانت قد استوردت للرئيس السوري شكري القوتلي واقتناها لاحقا الحاج سامي لان الحاج سامي كان قد سجلها باسم المعمل .و استعملت لاحقا( بعد التأميم ) لنقل العمال .

كما صدر قرار ثان  بمنع الحاج سامي من مغادرة البلاد في حال عودته إلى سوريا .

 لم تخبر أميرة والدها بمضمون المكالمة التي أبلغتها بالتأميم لأنه كان مريضاً ينوي متابعة سفره إلى النمسا للعلاج ، التقى في المصحة العلاجية في جبال النمسا بتاجر حلبي فاقترب منه وقال له  معلش حجي ولا يهمك).

 فأجابه الحجي: ( ليش اش في ، ماذا حصل ) .

فذكرت له ابنته الحقيقة وقالت له : بابا أمموا المعامل و لكن .. و أشارت إلى رأسها قائلة : هذا العقل لا يستطيعون تأميمه .

اتصل فورا بصديقه الشاعر عمر أبو ريشة الذي كان سفيرا لسوريا  في فيينا  وطلب منه موافاته بالجرائد التي ورد فيها خبر التأميم و عندما قرأ أن التأميم جزئي فقط، و بدأ من حوله يطمئنونه بأنه جزئي،  أمسك بقلم أحمر و شطب على اسم معمله الوارد في الجريدة و قال : (خلص راح المعمل ) .

إدارة المعمل بعد التأميم

استلمت إدارة معمل الحاج سامي صائم الدهر في منطقة البلليرمون مجموعة من الشبان كانوا يعملون سابقاً معلمين في المدارس أو ضباطاً في الجيش .

 بقي فاتح ابن الحاج سامي الأصغر فترة بسيطة بعد التأميم في  المعمل للاستمرار في إدارة المعمل ولكن لم تطل مدة عمله تلك بعدما تعرض لمضايقات كثيرة.

روى لي عدد من العمال السابقين في المعمل أن مدير المعمل الجديد المعين من الحكومة- كان معلم مدرسة ابتدائية- شاهد يوماً أحد الأنوال واقفاً فسأل العامل عن سبب توقف النول عن العمل ، فأجابه العامل : مشط النول مكسور ونحتاج إلى قطع تبديل ( مشط النول هو قطعة أساسية فيه تدخل من خلاله الخيوط لكي تنسج ) .

فما كان من المدير الجديد للمعمل إلا أن أخرج مشطاً للشعر كان يحمله في جيبه قائلاً له : خذ مشطي و ركبه على الآلة ولا توقف العمل لهذا السبب التافه.

 وهنا ضحك كافة العمال على جهل المدير فانسحب إلى غرفته خجلاً .

عمل الحاج سامي بعد التأميم

روت لي ابنته أن كل ما كان لديه من أموال سائلة عندما تم التأميم هو عشرة آلاف دولار أمريكي وخمسون ألف ليرة سورية فقط لا غير ، فقد كان الحاج سامي  يوظف كامل سيولته المالية في توسعة المعامل دائماً .

عاد من النمسا إلى بيروت،  وهناك حضر إليه أصحاب معامل النسيج  اللبنانيين ووضعوا أمامه مفاتيح معاملهم وقالوا له:  أنت شيخ صناعة النسيج ومعاملنا تحت تصرفك.  فشكر لهم مجاملتهم هذه .

قرر الحاج سامي إعادة إنشاء معمل جديد في لبنان،  فسافر إلى ليون وتعاقد على شراء  عشرة أنوال فقط ، قبل الفرنسيون الذين تعاملوا معه طوال أربعين عاماً خلت أن يزودوه بالأنوال بالدين ودون أي دفعة نقدية سلفاً .

قصدت ابنته أميرة دير للرهبان في منطقة كفرشيما على الطريق بين بيروت وصيدا، وطلبت من رئيس الدير أن يبيعها قطعة أرض تابعة للدير لبناء معمل صغير عليها ، وقالت له : أن سكان المنطقة سيستفيدون من فرص العمل التي سيوفرها هذا المعمل .

اتفقت معه على شراء الأرض بالتقسيط وبدون دفعة أولى , كما اتفقت مع أربعة عمال بناء من أهل القرية لبناء صالة صناعية بمساحة 500 متر مربع فقط لا غير  بدلاً من مساحة أرض المعمل القديم التي زادت على خمسين ألف متر .

سكن الحاج سامي مع ابنته في بيت متواضع مؤلف من غرفتين ، وانفقوا كامل الرصيد المتبقي لديهم على أعمال البناء وتركيب الآلات ولم يستطيعوا أن يشتروا إلا المواد الغذائية الضرورية لكفاف قوت يومهم.

بدأ المعمل بالإنتاج وحقق بضاعة منافسة تضاهي البضاعة الأجنبية حتى أن الكثير من التجار اللبنانيين كانوا يطلبون عدم كتابة اسم الحاج سامي صائم الدهر على القماش لبيعه على أساس أنه قماش أجنبي.

ما أن بدأ المعمل بالعمل وتحقيق الأرباح حتى بدأت بوادر الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976م ، فعاد الحاج سامي مع ابنته إلى حلب لتوافيه المنية فيها في عام 1980م عن عمر ناهز الأربع و ثمانين عاماً .

المراجع :

  • شهادة حية من الانسة أميرة ابنة الحاج سامي صايم الدهر ( مواليد 1929 ) .
  • المجموعة الاقتصادية لغرفة تجارة حلب من عام  1930 حتى 1935
بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة