ردود السيرة النبوية على الرسوم الدانمركية

في ظل موجة الغضب الجارف على الرسوم الدانمركية المسيئة ، و التي أصابتنا جميعاً ، تساءلت ماذا لو كان الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام موجودا بيننا ، و واجه هذه الإساءة ، و كيف ستكون ردة فعله عليها .

و كلي قناعة مني أن ردة فعله المفترضة تلك ، هي التصرف الأفضل الذي يجب أن نتصرفه في مواجهة هذه الرسوم المسيئة .

و للرد على تساؤلي هذا لم يكن أمامي إلا الرجوع إلى السيرة النبوية الشريفة ، و القياس على أمور تعرض لها عليه الصلاة و السلام خلال نشره لدعوته ، من قبل أعداء هذه الدعوة ، فرأيت أن ردود فعله عليه الصلاة و السلام مقسومة إلى فترتين :

- الفترة المكية: عندما كان المسلمون ضعفاء و تحت رحمة جبابرة قريش .

- و الفترة المدنية : عندما انتشر الإسلام في المدينة المنورة ، و صار المسلمون نداً لأعداء الإسلام .
أما عن الفترة الأولى و هي الفترة المكية :

- فبالرجوع إلى سيرة ابن هشام ( ج 1/379) ، و صحيح البخاري ( ج4/225 ) فقد ورد فيهما :

كانت قريش تسمي رسول الله عليه الصلاة و السلام مذمماً بدلا عن محمداً ، ثم يسبونه .

فكان رسول الله ( ص ) يقول :( ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش و لعنهم ، يشتمون مذمماً و يلعنون مذمماً ، و أنا محمداً ).

أي انه (ص ) كان لا يأبه لسبهم و لعنهم ، و يتعالى عنه و يعتبره موجهاً إلى غيره ، و يدعو إلى تجاهل هذا السب و اللعن ، مقتنعاً أن الله يصرف عنه هذا الشتم .

- و جاء في سيرة ابن هشام (ج1 /380 ) : أن أبو جهل لقي مرة رسول الله ( ص) فقال له : يا محمد لتتركن سب أ لهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد ،فأنزل الله تعالى : (و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) الأنعام /108 .

فكف عندئذ رسول الله (ص) عن سب آلهتم و جعل يدعوهم إلى الله تعالى .

و نرى من هذه الواقعة النهي الإلهي الواضح عن كل فعل يؤدي إلى شتم الله ، و إلى شتم دين الإسلام ، و استبداله بالدعوة إلى الإسلام بالكلام الحسن .

- و جاء في سيرة ابن هشام (ج 2/423 ) : انه لما تمادى جبابرة قريش في الشر و أكثروا الاستهزاء بالرسول الكريم (ص ) انزل الله عليه : ( إنا كفيناك المستهزئين ) الحجر (95-96 ) .

فالله سبحانه و تعالى قد كفى رسوله المستهزئين ، و انتقامه -سبحانه تعالى - منهم أقوى انتقام .

- و قد بلغ إيذاءهم للرسول (ص) مبلغاً عظيماً ، فقد جاء في صحيح البخاري ( ج1/138 ) :

بينما رسول الله (ص ) قائماً يصلي عند الكعبة، و جمع قريش في مجالسهم ، انبعث أشقاهم ،فلما سجد رسول الله ( ص) ، وضع بين كتفيه أحشاء حيوان مذبوح ، و ثبت النبي ساجداً ، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك .

فلما قضى رسول الله (ص) الصلاة قال : (اللهم عليك بقريش ،اللهم عليك بقريش ،اللهم عليك بقريش ) ثم سمى بالدعاء سبعة من جبابرة قريش ، فقتلوا جميعا في معركة بدر ، ولم يتجاوز عليه الصلاة و السلام الدعاء عليهم .

- وروى البخاري في صحيحه ( ج4/139) : أن الرسول عليه الصلاة و السلام عندما قفل عائدا من الطائف و قد وقف له أهلها صفين على طريقه ، يرمونه بالحجارة حتى أدموه ، و هم في ذلك يستهزئون و يسخرون فخاطبه ملاك الجبال و قال له: إن شئت أطبق عليهم الأخشبين (و هما جبلين عظيمين ) ، فقال عليه الصلاة و السلام :( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) .

فالرسول عليه الصلاة و السلام لم يشاء أن يعاقبهم عقابا جماعيا ، و يبيدهم جميعا جزاء ما اقترفت أيديهم ، فربما يكون من بينهم عابد لله ينصر الاسلام ، فيؤخذ بجريرة غيره 

- و في قصة إسلام سيد الشهداء حمزة ( رضي الله عنه ) عبرة كبيرة لفوائد الصبر على الأذى، فقد جاء في سيرة ابن هشام (ج 1/312 ) :

أن أبا جهل اعترض رسول الله ( ص ) عند الصفا فآذاه و شتمه ، و صب التراب على رأسه الشريف ، و رسول الله (ص ) ساكت لا يكلمه .

فلما رجع حمزة من القنص ، و لم يكن مسلماً حينها ، بلغه ذلك فغضب ، و توجه إلى أبو جهل ، و قال له : أتشتم ابن أخي ، و انأ على دينه أقول ما يقول ، ثم ضربه بالقوس فشجه ، و قال له : رد علي ذلك إن استطعت .

فالرسول عليه الصلاة و السلام لم يرد على أذى أبو جهل، مما أكسبه التعاطف، و كان صبره على الأذى أحد الأسباب في دخول حمزة – أشجع فتيان قريش - في الإسلام، و نصرته للرسول ( ص ) و للإسلام.

- الفترة الثانية عندما استقر المسلمون في المدينة المنورة و قويت دعوتهم :

- جاء في سيرة ابن هشام (ج2/187 ) :

أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، دخل يوما على يهود مجتمعين على رجل يهودي اسمه فنحاص ، فقال له ويحك يا فنحاص اتق الله و اسلم ، فأجابه: و الله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، إنه إلينا لفقير ، و إنا عنه لأغنياء ، و ما هو عنا بغني .

فغضب أبو بكر، و ضرب وجه اليهودي ضرباً شديداً، فذهب اليهودي إلى رسول الله ( ص )، و شكا أبو بكر، و لما سأل الرسول ( ص ) أبو بكر عن سبب فعله، أجابه بما قاله اليهودي عن الله.

فنزلت الآية القرآنية الكريمة :

( و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) آل عمران :187،188

و على الرغم من القدرة العسكرية للمسلمين في ذلك الوقت، فقد جاءهم الأمر الإلهي بالصبر على الأذى ، و مواجهة هذا الأذى بالتقوى و إن ضبط النفس في تلك الظروف دليل على شدة العزيمة .

و قد رد عليه الصلاة و السلام على أفعال قريش ، عندما تمكن الاسلام ،و صارت طرق تجارة قريش مع الشام تحت سيطرته ، بقطع طريق التجارة عليها ، و اعترض قوافلها ، و فرض عليها حصارا اقتصاديا ، و قصة معركة بدر التي نتجت عن اعتراض قافلة أبو سفيان معروفة ، و لكنه عليه الصلاة و السلام لم يقتل رسل قريش أبدا .

و من كل ما سبق يتبين لنا أن الرسول الكريم ( ص ) :

-قد تجاهل سباب و شتائم الكفار ، و اعتبر أنها لا تخصه و موجهة إلى غيره ، واثقا من أن الله سيكفيه المستهزئين .

- ثم دعا أعداء الإسلام بالحكمة و الموعظة ، و صبر على آذاهم ، و واجهه بالتقوى و بالدعوى الحسنة .

- و لم يسب و لم يشتم رموز الكفار حتى لا تسب رموز الإسلام .

- و لم يعاقب الكفار عقابا جماعيا ، و عندما دعا على قريش جميعها ، عاد و سمى أشخاصا باسمهم فيها .

- و كان صبره و تعاليه عن أذاهم ، سببا من اسباب دخول أحد الجبابرة الغير مسلمين ،كنصير قوي للإسلام .

- و لا مانع من محاربة أعداء الرسول اقتصادياً و محاصرتهم ، كما فعل عليه الصلاة و السلام ، و لكن عندما كانت قوته تعادل قوتهم .

- أما أعمال حرق السفارات و الكنائس و الأملاك العامة ، كرد فعل على سب و شتم الرسول ( ص )، فلم أجد أبداً فعلاً يماثله في عهد الرسول ، و لم أجد أن الرسول (ص) أمر به ، بل و جدت انه نهى عنه كما جاء معنا آنفا .

عسى ان يرد الله كيدهم في نحرهم ، و لنا في رسول الله أسوة حسنة ، و الله من وراء القصد .
 

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة