مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي

تصدى المترجم الاستاذ عمرو الملاح للرد على كتاب  أوهام  الذات المقدسة السلطان عبد الحميد لمؤلفه المحامي علاء السيد بمقال مطول نشر في جريدة "القدس العربي" اللندنية  وكاتب المقال الناقد والمهاجم للكتاب هو من المقدسين للسلطان عبد الحميد لأسباب شخصية، وقد كتب مقالة مطولة بعنوان:

" السلطان عبدالحميد الثاني: بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي " 

  كنت أعتقد أن المقال سيكون نقد منهجي بحثي علمي ولعلي اتعلم منه شيئاً ينفعني، فلما قرأته لم استطع الرد..شعرت بالأسى عليه، وبالحزن الشديد لما آل إليه حالنا فكرياً.

فإذ بي أفاجأ بأحد أصدقاءه المدعو شهاب الدمشقي يرد على مقاله رداً مهماً، مما جعل الأمل يعود إلي والقنوط يرحل عني، بتحقق أهداف الكتاب وحدوث الحراك في البحيرة الآسنة.

وسأورد نص المقال كاملا ويليه النص الكامل للرد على المقال:

السلطان عبدالحميد الثاني: بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي 

القدس العربي - عمرو الملاح - 21 - فبراير - 2022

لعل السمة الأبرز في مجتمعاتنا المعاصرة، أن المؤرخ، ولاسيما الأكاديمي، لم يعد هو الذي يستأثر بمهمة تحديد مضمون التأريخ ورسم حدوده. وبينما نجد أن المؤرخ مقيـد بضوابط التوثيق وقواعده، التي تملي عليه إسناد كل ما يعرض له في بحثه من معطيات إلى مصادرها، والالتزام بالمنهجية والطرق العلمية في مقاربة موضوعاته، نرى أن المثقف الذي يمارس الكتابة، مثلاً، متحرر إلى حد بعيد من عبء الالتزام بقواعد المنهج العلمي في تناول التاريخ، وبإمكانه استخدام لغة مبسطة غير اصطلاحية بهدف تثقيف أوسع شريحة ممكنة من عامة القراء.

ويعد كتاب «الذات المقدسة السلطان عبدالحميد الثاني: محاولة معاصرة لتوضيح الرؤية» لمؤلفه المحامي علاء السيد الصادر عن مركز التاريخ العربي للنشر في القاهرة (2022) أحد الإصدارات الجديدة التي تتناول السلطان عبدالحميد، وهو الشخصية الجدلية التي لطالما كانت مقاربتها في الأدبيات العربية أسيرة نظرتين متضادتين، ترى إحداهما أنه السلطان العثماني الأسوأ فتصفه بـ»السلطان الأحمر» وتناصر الأخرى من تعتبره «السلطان المظلوم».

ومما يلفت النظر أن المؤلف ليس متخصصاً في التاريخ، وإنما هو مثقف سوري معروف، ولديه اهتمامات واسعة تتجاوز نطاق مهنة المحاماة التي يزاولها في مدينة حلب لتشمل التدوين، وكتابة المقالة، والأرشفة، وفنون الطبخ، والترميم الأثري في جملة مجالات أخرى.

السردية الوطنية ما بعد العثمانوية وإرث السلطان المعمار

حاول عبدالحميد الثاني (1876-1909) إقامة نظام حكم مركزي ذي صبغة أوتوقراطية، على صعيد التنظيمات «السياسية الدستورية» وهي المسألة التي شكلت مصدر صدام بينه وبين معارضيه. وعلى النقيض من الصورة التنميطيّة المرسومة عنه بوصفه مناهضاً لنهج التنظيمات، يرى المؤرخ البريطاني مالكولم ياب أن تجميع الخطوط السياسية الرئيسية يثبت أن حقبته كانت امتداداً لمرحلة التنظيمات. ويتجلى الجانب الأبرز للتنظيمات الحميدية في التحديث العمراني، الذي قامت فلسفته على الربط بين الإعمار والأمن، وتحسين شبكة المواصلات والاتصالات، وتأمين مصادر جديدة للدخل القومي، وما واكب ذلك من ارتفاع كبير في معدلات النمو السكاني، وتوسع في المؤسسات الصحية والتعليمية، وتنام للطبقة الوسطى المدينية، على نحو يمكننا معه استعارة وصف المؤرخ السوري جمال باروت لعبدالحميد بـ»السلطان المعمار». غير أن هذا الجانب الحداثي هو الذي جرى التعتيم عليه بصورة منهجية لصالح تظهير الجانب الاستبدادي في نهجه في الحكم في السردية المرتبطة بعملية بناء الهوية الوطنية ما بعد العثمانوية، التي لا يمكن أن تعد بمثابة «تاريخ» بالمعنى الدقيق للكلمة، ودأبت على انتهاجها بعض الدول العربية الحديثة المنفصلة عن السلطنة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في مسعى للقطع مع الإرث العثماني برمته.

والواقع إن هذا الكتاب – الذي أخفق مؤلفه في ترجمة ادعائه بأنه لا يهدف إلى الإساءة أو المديح، وهاتان مفردتان تنطويان على حمولة دلالية تماثل في صورتها الأحكام الأخلاقية، فعمد إلى ترجيح كفة إظهار صورة قاتمة عن هذا السلطان كما يتضح من ثنايا فصول كتابه السبعة، التي جاءت على هيئة مقالات مجمعة، مما لا يتفق مع وظيفة المؤرخ التي تفترض فصل «ذاتوية» الباحث عن موضوعه، فلا تجيز له استثمار الحكم الأخلاقي على قضايا التاريخ ـ إنما يندرج ضمن سياق هذه السردية الوطنية، بل يقع أيضاً في صلب الجدال الدائر طوال عقود من الزمان بين فريقين متقابلين، أحدهما منافح عن هذا السلطان وآخر ناقم عليه.

السلطان بين الخلافة والعثمنة

لئن عوّل عبدالحميد في إطار تقديراته لمشارفة إمبراطوريته على الأفول، خاصة بعد انحسار رقعتها في البلقان، على استثمار مصادر الشرعية كافة، ومن بينها الدينية بوصفه يمثل «الخليفة الإسلامي» في صيغة تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية عبر طرح ثنائية «السلطان- الخليفة» إلا أن «الخلافة» لم تكن في عهده «مؤسسة» قائمة في حد ذاتها بقدر ما كانت مصطلحاً استخدمه بالمعنى الأيديولوجي الدعائي، كما يشير المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني. فظل الإطار العام لسياسته، التي ترمي إلى محاولة تعزيز دولته من الداخل، بنيوياً بربط الأطراف مع المركز في مسعى لمواجهة دول الغرب واللعب على تناقضاتها، ينوس بين «الخلافة» و»العثمنة» وتمثل الأخيرة رابطة تربط شعوباً تختلف أصلاً وفصلاً، لكنها تتفق رعوية، وتعد بمثابة الأساس الذي ما فتئت تعتمد عليه دولته في تشريعات المواطنة والتابعية والجنسية، بالتزامن مع محاولته احتواء الحركات القومية الانفصالية متوسلاً بالترغيب والترهيب في آن معاً.

وبالعودة إلى الكتاب فإن عدم الإتيان بما ذكره مؤرخون متخصصون ممن يهتمون بتاريخ الأفكار بشأن هذه المفاهيم الشائكة والمسائل المعقدة، ووضعها على مائدة البحث والمناقشة يعد بمثابة نقص كبير يعتوره.

البغاء بين السردية الشعبوية والتأريخ الحديث

يقدم المؤلف سردية يغلب عليها الطابع الشعبوي، تربط «الخلافة» بتنظيم «البغاء» في الحقبة الحميدية، مبدياً حيرته في الأسباب التي سمحت بموجبها السلطنة بالترخيص الرسمي لدور البغاء في جميع أرجائها، وهي التي تستند، وفق رأيه، في كل قوانينها إلى الشرع الإسلامي، وموافقة شيخ الإسلام وهو على المذهب الحنفي، ما يعكس افتقاره لفهم مدى عمق التحولات التي شهدتها الدولة العثمانية في مرحلة التنظيمات، ومن أهمها «علمنة» القوانين والمؤسسات على نحو مطرد، وانحسار دور المشيخة الإسلامية. ولئن أغفل الكتاب حقيقة مؤداها أن «البغاء» هو ظاهرة اجتماعية شائكة ومثيرة للجدل، وقديمة قدم البشرية، وكانت طوال التاريخ الإسلامي مهنة موجودة، على الرغم من تحريمها دينياً، فإنه استند في بناء سرديته، إلى إشارات لا توثيق لها، وحوارات تفتقر للتوثيق العلمي. وقد يعجب القارئ إذا علم أن المؤلف، وإن أقر بأنه لم يجد، وفق زعمه، مرجعاً يبحث في هذا الموضوع بشكل مفصل وموثق، راح يحاجج بأن عام 1884 شهد صدور ما اعتبره «قراراً سلطانياً» يُسمى (تعليمات نامه)، الذي لم يستطع الحصول على نصه، بترخيص مهنة القوادة، وتنظيم دور البغاء وحصرها في مكان محدد خاضع للرقابة في أرجاء السلطنة كافة، وبأنه وقع الاختيار على منطقة بك أوغلي في إسطنبول لتطبيقه أولاً. والواقع إن الكتاب لم يستطع تقديم سردية علمية تبين أن الموجة «الحداثية» في الدولة كانت قد بلغت ذروتها في هذا الطور من مرحلة التنظيمات، كما يشير المؤرخ التركي إلبير أورطايلي، وأنها كانت تسعى على نحو متعاظم إلى الولوج إلى المجال العام، ومن ذلك «تقنين البغاء» وفرض قيود على ممارسته ورقابة صحية على ممارسيه بهدف منع انتشار الأمراض المنقولة جنسياً.

وفي محاولة لتصويب سردية الكتاب سأحاول أن أكثف المخرجات البحثية الناتجة عن حفريات الأكاديمية التركية موغيه أوزبك في الأرشيف العثماني، التي تذكر أن الحقبة العثمانية المتأخرة شهدت توسعاً في إنشاء المؤسسات الصحية العصرية الحديثة، وأن الدولة في سياق سعيها لمكافحة الأمراض التناسلية، بادرت إلى إصدار لائحتي تعليمات رسميتين، عُرفتا كلاهما باسم (تعليمات نامه) وتتعلقان بإخضاع دور البغاء للرقابة الصحية، إحداهما عام 1884 والأخرى عام 1915، مبينة أن أولاهما الصادرة عن مجلس شورى الدولة عام 1884، وعُرفت رسمياً بـ»لائحة تعليمات الخدمات الصحية في بعض الأماكن الخاصة، ضمن حرم دائرة البلدية السادسة» كانت محصورة داخل الحدود الإدارية للدائرة البلدية السادسة التابعة للعاصمة إسطنبول، بك أوغلي، التي كانت آنذاك مركزاً يطغى عليه الطابع العالمي – الكوزموبوليتي، بينما اتسع نطاق ثانيهما الصادرة عام 1915 ليشمل كل أرجاء السلطنة بهدف السيطرة على انتشار الأمراض المنقولة جنسياً، إبان الحرب العالمية الأولى، وهي التي عُرفت بـ»لائحة تعليمات النظام المنشور بشأن منع انتشار عدوى الأمراض الزهرية».

افتتاح دور البغاء في حلب بين روايتي الطباخ والغزي

تناول مؤرخا حلب الطباخ والغزي في كتابيهما المهمين موضوع افتتاح دور البغاء في محلة بحسيتا في حلب في الحقبة العثمانية المتأخرة، لكن في أسلوب يغلب عليه الوعظ. وتتسم رواية الطباخ بالاقتضاب الشديد، وكان السياق الذي وردت فيه يتناول منجزات الوالي رائف باشا (1896-1900) ومآخذه عليه المتمثلة في «فتح بيوت مخصوصة للفحش» دون أن يحدد السنة التي جرى فيها ذلك، ولا أن يذكر إن كان ذلك بصورة شبه رسمية، بمعنى إغضاء الطرف بإيعاز منه، أم رسمية بموجب ترخيص رسمي بالفعل

أما رواية الغزي، التي يتجاهلها الكتاب بالمطلق، فكانت أكثر إسهاباً وأوردها في سياق مناقض، استعرض فيه طائفة من الأمور التي جعلت الناس ينفرون من الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، متناولاً ما سماه «إفساح الحكومة مجال البغاء» الذي تجلى في «تكثير فتح أبواب العهر وشدة العناية بتيسير وسائط الوصول إليه في أكثر البلاد العثمانية، حتى كان لحلب من هذه الوسائط النصيب الأوفر، فقد فتح فيها على صفة رسمية ما ينوف على مئتي بيت يجمعها اسم «المنزول» أي الماخور». وإن من شأن وضع رواية الغزي في إطار السياق التاريخي الأشمل، أن يتقاطع مع مخرجات أوزبك البحثية، التي تبين أن «تقنين البغاء» في أرجاء السلطنة كافة، قد جرى إبان الحرب العالمية الأولى.

إن اكتفاء المؤلف بالتركيز على رواية الطباخ المقتضبة، وبنائه استنتاجات عليها تتسم بطابع محض «تخميني» دون تقديم أدلة متينة يُعتد بها علمياً وأكاديمياً، وإعراضه عن الإتيان برواية الغزي المناقضة لها يؤكد عدم التزامه «الحياد» الذي يملي على المؤرخ إيراد الروايات المختلفة للواقعة التاريخية الواحدة ومناقشتها؛ فلا يقنع برواية حتى تكتمل لديه كل الروايات ولا يفصل فيها إلا بعد إخضاعها للمقاطعة والتدقيق والتمحيص.

والي حلب الذي حُرم من رعاية اليوبيل الفضي لجلوس السلطان

يذكر الكتاب، بلغة تقريرية جازمة، أن عام 1900 شهد قيام والي حلب رائف باشا بتدشين ساعة باب الفرج. ولربما لم يخطر في بال المؤلف أن مراحل تشييد برج الساعة، الذي كان يُمثل في نظر عبدالحميد رمزاً للحداثة، قد جرى توثيقها بقدر كبير من الاستفاضة في الصحف العربية بأقلام مراسليها في حلب.

ونوجز في ما يلي المراحل تلك بالرجوع إلى أعداد صحيفتي «لسان الحال» و»البشير» البيروتيتين: ففي 19 أيلول/سبتمبر 1898 جرى وضع حجر الأساس لإقامة البرج؛ وفي 22 سبتمبر 1899 كان الانتهاء من أعمال تشييده، وهذان التاريخان كلاهما يتوافقان مع ولاية رائف باشا، إلا أنه جرى تأجيل التدشين ليتزامن مع الاحتفال باليوبيل الفضي للجلوس السلطاني، لكن السلطان سارع إلى إقالة رائف باشا وتعيين أنيس باشا خلفاً له في تموز/يوليو 1900، حارماً إياه بذلك من رعاية اليوبيل الفضي لجلوسه، الذي جرى في 1 سبتمبر 1900 وشهد تدشين برج الساعة.

كتاب بلا وثائق رسمية

ما يستوقف القارئ حينما يتصفح قائمة المصادر والمراجع، خلوها من الوثائق الرسمية والمحفوظات التاريخية – الأرشيفات، وتكمن المفارقة في أن المؤلف يُوصف بأنه متخصص بالوثائق التاريخية، ولديه موقع على الشبكة يوفر المحتوى الوثائقي الرقمي للباحثين، لقاء مقابل مادي، فضلاً عن أن ترتيب الكتب في القائمة هو حسب العنوان، دون مراعاة التسلسل الأبجدي، بالإضافة إلى إدماج الكتب الأجنبية المحدودة أصلاً والعربية معاً، وهذه كلها أمور قد تكون مباحة في كتابة المقالة أو المدونة، لكنها غير جائزة وفق القواعد المرعية في كتابة البحث العلمي.

الرد على المقال بقلم شهاب الدمشقي

لا جديد إن قلنا أن المشهد الثقافي العربي اليوم هو في أسوأ حالته !، فما يحكم النتاج الثقافي هو الجمود وتكرار القديم، وفق ظاهرة (التحشية على المتون) التي ظهرت في حقبة ما يُعرف (بعصر الانحطاط !) .. ويبدو أننا ما زلنا نعيش هذا الانحطاط ! ..

كتب علاء السيد كتاباً هاماً نشره بعنون (الذات المقدسة .. السلطان عبدالحميد الثاني، محاولة معاصرة لتوضيح الرؤية) عالج فيه سيرة السلطان عبدالحميد، وحاول في كتابه تقديم قراءة جديدة لحياة هذا السلطان الذي تُحاط سيرته بالتبجيل الشديد، خصوصاً في جانب دوره في مقاومة الصهيونية الذي تسبب (وفق الرواية الشعبية الشائعة) في خلعه عن الحكم،  وخلص الكاتب إلى التشكيك في هذه الصورة النمطية المفتعلة .. 

ولأن الفكرة مثيرة وتمسُّ المقدسات الفكرية ! (وقلة قليلة من تملك الجرأة على المساس بـ "المقدسات الفكرية" !) فقد تعرَّض الكتاب والمؤلف إلى هجوم شرس وعنيف ! شنه فريق من الذين لم يقرؤوا الكتاب أصلاً ! بل يجاهرون علناً بأنهم لن يقرؤوه!! وإنما كان نقدهم (عالعمياني !) كعادة ! .. 

وإذا كانت هذه الشريحة التافهة لا يؤبه لها (رغم اتساعها) فإن المصيبة تمكن في فريق من المثقفين والباحثين الذين تورطوا في ذات البليَّة !، ومنهم الصديق العزيز عمرو الملاح (الذي أكنُّ له كل التقدير، ولكن لكل جواد كبوة)، وكانت شرارة الانفعال لدى عمرو الملاح هي في إشارة عابرة جاءت في الكتاب لمَّح فيها علاء السيد إلى دور رئيس المجلس البلدي لحلب بالوكالة مرعي الملاح (أحد أجداد عمرو الملاح) 

في افتتاح أول محل عمومي (بيت دعارة) في بحسيتا، وهنا قامت قيامة عمرو الملاح ولم تقعد ! 

(وهو الذي يتعامل مع مرعي الملاح بقداسة مفرطة باعتباره إرثاً عائلياً مقدساً !!) 

فكان أن زمجر بغضب قائلاً: (مرعي الملاح خط أحمر !) ثم قرر أن يشن حملة شعواء على الكتاب والمؤلف، ووعد قراءه بنقد علمي لا يبقي ولا يذر، لينتهي الأمر بـ "مُقيل" صحفي نُشر في صحيفة القدس العربي وبعض مواقع المعارضة التي تصطاد في الماء العكر !.. 

ورغم أن كتاب علاء السيد يتضمن مواضيع مثيرة وخطيرة وتستحق المناقشة الرصينة (أهمها علاقة السلطان عبدالحميد بالصهيونية) إلا عمرو الملاح اختار أن يتجاهل تلك القضية الإشكالية 

(ربما خوفاً من خسارة القراء، وفقدان الشعبية، وعدم المغامرة بزج اسمه في هذا الملف الشائك !!!)، واختار أن يركز بشكل أساسي على قضية ترخيص الدعارة في حلب ! 

على الرغم من أنها مجرد قضية فرعية وثانوية في الكتاب لا تشغل سوى 4 صفحات فقط من أصل 348 صفحة !! لمجرد أنها تمس مرعي الملاح ! (وفي جميع الأحوال، ولمعالجة واسعة لهذه القضية، أنصح المهتمين بقضية الدعارة في حلب بالرجوع على كتاب "بيوت الخفاء في حلب الشهباء لإياد جميل محفوظ، على الرغم من أن هذه ليست هي قضية الكتاب أصلاً !!) .

من المؤكد أن مرعي الملاح هو شأن عائلي خاص بالصديق عمرو الملاح، ولا يحق لنا التدخل في تقييم مواقفه وطريقة هيجانه وتعاطيه مع أجداده وأفراد أسرته !، ولكن أن يتعمَّد عمرو الملاح تهييج القراء في صحيفة يومية (وليس في بوست عابر) من خلال مسائل عابرة، 

ويتجاهل الرد على القضية المحورية الأساسية التي أثارها الكتاب (وهي شخصية عبدالحميد وعلاقته بالصهيونية وهرتزل) فهنا نكون أمام مشكلة مستعصية ! .. 

ومن الواضح أن عمرو الملاح – تماماً كغالبية من انتقد الكتاب – تجاهل تماماً مناقشة المحاور المفصلية في الكتاب، والرد عليها بشكل تفصيلي، واختار الحل السهل وهو "الشخصنة" بعد أن غلَّفها بغلاف رقيق من الموضوعية العلمية ! .. 

إذ بدأ كلامه بذات الحيلة التقليدية التي نسمعها رداً على أي معالجة نقدية جريئة وغير مألوفة لأحد مقدسات الثقافة والفكر، وهي: تجريد الكاتب من المصداقية العلمية بسؤاله (هل أنت متخصص أصلاً فيما تكتب !؟) .. إ
ذ يقول عمرو الملاح منتقداً علاء السيد بعبارة تختلط فيها السخرية بالنقد قائلاً: ( أن المؤلف ليس متخصصاً في التاريخ، وإنما هو مثقف سوري معروف، ولديه اهتمامات واسعة تتجاوز نطاق مهنة المحاماة التي يزاولها في مدينة حلب لتشمل التدوين، وكتابة المقالة، والأرشفة، وفنون الطبخ، والترميم الأثري في جملة مجالات أخرى) 
وهو بذلك يعتبر أن مجرد (عدم التخصص في التاريخ) وتنوع الاهتمامات (التي تصل إلى الطبخ) كافٍ لتجريد المؤلف من المصداقية العلمية واسقاط الكتاب بالمجمل ! .. 

والمفارقة السريالية هنا أن ذات هذا النقد يصدق بالحرف على عمرو الملاح ! 

فهو (ليس متخصصاً في التاريخ، وإنما هو مثقف سوري معروف) فهو مجرد دارس للأدب الإنجليزي، وإسهاماته المنشورة مجرد "ترجمات" لا غير ! مع مجموعة من المقالات ! .. فما الذي يمنح عمرو الملاح الحق في التعالي على علاء السيد وإطلاق أحكام معرفية عليه ! ..

من الملفت للنظر أنه لا توجد ضوابط واضحة في تمييز "المتخصِّص" عن غيره: 

فهل المتخصص في حقل معرفي معين هو من يحصل على شهادة (كرتونة) في هذا الحقل !؟

إذا كان هذا هو ضابط التخصص فما أكثر الخريجين الذين لا يفقهون أبسط مفاهيم تخصصهم الأكاديمي !، 
وبالمقابل ما أكثر غير الأكاديميين الذين برعوا في حقول معرفية أخرى تتجاوز اختصاصهم الأكاديمي ! ..

من المؤكد أن التخصُّص هو ببساطة (الشغف) في حقل معرفي معين، مما يدفع صاحبه إلى التعمق في هذا الحقل المعرفي وتوسيع اطلاعه عليه، ومن الخطأ حصر دائرة التخصص في دراسة  جامعية أو شهادة أكاديمية، 
أما تنوُّع الاهتمامات فهو ليس عيباً بل مظهراً من مظاهر الثراء والنضج المعرفي !، 

والسيوطي – كمثال – لم يترك مجالاً إلا وكتب فيه، وهذه ليست نقيصة معرفية !، 

أما "الطبخ" الذي أشار إليه عمرو الملاح فهو ليس عيباً، بل هو حقل من حقول التاريخ الثقافي، وقد كتب فيه منير الكيال (الباحث في التراث الدمشقي) كما اهتم فيه فخري البارودي وكتب مادة توثيقة هامة جداً، ومثله محمد سعيد القاسمي الذي ضمَّن كتابه الهام (قاموس الصناعات الشامية) تفاصيل هامة عن الطبخ الشامي، وهي مسائل لا تعيب الباحث ! ..

ولعل ما يثير التساؤل في مادة عمرو الملاح (وليس المقال لأنه فعلياً لا يتضمن أي فكرة محورية واضحة سوى الحرص على تسفيه الكتاب والمؤلف !) 

هو السؤال المعضل: ما تعريف الباحث؟ وما الفرق بينه وبين "المثقف" و"الكاتب" ؟، 

سيما وأن عمرو الملاح يستكثر على علاء السيد لقب "الباحث" ويصفه بمجرد "مثقف" لا غير !، أما هو فيُعرِّف عن نفسه بلقب (باحث) ! ..

أما النقد الذي يعتبره عمرو الملاح مسيئاً للكتاب فهو (مما يستوقف القارئ حينما يتصفح قائمة المصادر والمراجع خلوها من الوثائق الرسمية والمحفوظات التاريخية-الأرشيفات) ! 

ووجه الغرابة أن هذا النقد (فضلاً عن عدم صحته بالنظر إلى رجوع المؤلف إلى السالنامة العثمانية كما ذكر) فإنه لا يصلح لأن يكون نقداً منهجياً ! 

فبافتراض أن المؤلف لم يرجع إلى (الوثائق الرسمية والمحفوظات التاريخية) فالسؤال هو: هل وجد الباحث عمرو الملاح في تلك (الوثائق الرسمية والمحفوظات التاريخية) ما ينفي أو يتعارض مع ما انتهى إليه المؤلف من نتائج  !؟ 

الطريف في الأمر أن أشهر عمل مرجعي في الدفاع عن عبدالحميد واعتباره ضحية الصهيونية والماسونية وهو كتاب (دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني) للـ "الباحث الأكاديمي الجامعي المتخصص في التاريخ !!!" الدكتور حسان الحلاق تخلو قائمة مصادره ومراجعه من (الوثائق الرسمية والمحفوظات التاريخية-الأرشيفات) فهل يعني ذلك عدم الاعتداد بكتابه لهذا السبب ! ..

طباعة