ما ذُكرت بحسيتا أمام حلبي ، إلا و ابتسم ، أثار هذا الأمر فضولي ،و بما ان جيلنا لم يعرفها ،و الجيل السابق الذي أدركها يتجنب الحديث عنها ، و كلما سألت كبار السن عنها نفوا في البداية و بشدة معرفتهم المباشرة بها ، ثم تدريجيا يتبسطوا و يسترسلون في الحديث عنها ، و يشيرون بحذر أنهم ربما زاروها مرة او مرتين للإطلاع على ما فيها فقط ، ثم و بصوت منخفض - مع تحذيري من نقل ما يحكونه عنها على لسانهم - يروون مغامراتهم فيها .
و بما أنها تعد جزءا من تاريخ بلدنا ، و التاريخ تاريخ ،سواء كان سلبيا او ايجابيا ، و لم أجد في أي مرجع دراسة لتاريخ هذا المكان ، الذي قل من امتنع عن زيارته في ذلك الزمان ، حسبما تبين لي ، و لأهمية المؤشرات الأخلاقية و الاجتماعية التي يكشفها تاريخه ، و التي أترك تقديرها للقراء ، قمت بجمع المعلومات عنه من شفاه من عاصروه ، و ها أنا أقدمها لكم في مقالتي هذه :
مع بداية القرن العشرين - زمن الحكم العثماني - قرر رئيس بلدية حلب افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب ، أسوة بباقي مدن السلطنة العثمانية ،كما ذكر الطباخ في كتابه أعلام النبلاء ، و كان الهدف منها حصر و تنظيم عمل الفتيات في هذا المجال منعا من تواجدهن في مختلف الأحياء و فرض رقابة صحية عليهن ، و انقسم الناس حينها بين مؤيد لفكرة حصر الدعارة في أماكن محدودة ، و معارض بشدة للترخيص الرسمي لها ..
و لكن ترخيص الدعارة في أماكن محددة محصورة لم يمنع انتشار هذه الظاهرة بشكل سري، و المرأة التي كانت تمارس الدعارة بدون رخصة خارج البيوت الرسمية المخصصة لها، كانت تعاقب بالحبس ، و في حال ضبطت مرة ثانية او ثالثة تجبرها السلطات المختصة على الإقامة الإجبارية في دور الدعارة المرخصة.
و تقرر إقامة بيوت الدعارة المرخصة في حلب - التي أطلق عليها اسم المحل العمومي - في شارع بحسيتا ،التابع لحارة القلة ، قرب ساعة باب الفرج الحالية .
و كان أغلب سكان حارة القلة و بحسيتا قبل افتتاح المحل العمومي من العائلات اليهودية ، و قد حدد مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه نهر الذهب عدد سكانها اليهود بحوالي أربعة ألاف شخص في العشرينيات ، و اشهرهم آل جدّاع , آل نحمات , آل ساسون , وآل دويك ، الذين انتقل الأغنياء منهم للإقامة في محلة الجميلية تجنبا للإقامة قرب بيوت الدعارة .
أما معنى اسم بحسيتا فقد أورد الغزي عدة آراء حول معنى الاسم ، و رجّح أخيرا ان بحسيتا مركبة من كلمتين : أولاهما بيت و التي تختصر في السوريانية بحرفي ( با ) فقط مثل أسماء المناطق السوريانية الأخرى ( بانقوسا و تعني بيت الناقوس ، باريشا و تعني بيت الريس و غيرها ) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة ، و بذلك يكون معناها بيت الطهارة و المغفرة .
ويقول الغزي : (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس ،يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم )
أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر أورده الغزي فيما أورده من آراء ، و هو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا ، وان شخص اسمه سيتا باح بسر ما ، و افترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح و لهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته .
و هناك رأي يقول ان سيتة هو اسم منطقة من اصل سورياني ، و ان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه ، و بدمج باحة مع اسم سيته كانت بحسيتا .
و أنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني ، و لا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح ( بمعنى أفشى ) أو بكلمة باحة ( بمعنى ساحة ) .
و شارع بحسيتا هو شارع مستقيم بطول ثلاثمائة متر تقريبا ، على جانبيه كانت توجد الدكاكين التي تبيع غالبا المشروبات الروحية ، و في منتصف الشارع جهة اليمين يوجد مدخل صغير يؤدي الى زقاق المحل العمومي .
و سابقا كان في الزقاق الذي أقيم فيه المحل العمومي قبل ترخيصه ، مضافة للعموم ، و يطلق العامة على بيوت الضيافة اسم المنزول ، و هي من كلمة ( نزل ) الفصحى ، فيقال مثلا : (حللت أهلا و نزلت سهلا ) ، و عادة كان الأثرياء و الباشاوات و الآغوات ينشئون مكانا مخصصا لإقامة الأغراب و ضيافتهم مجانا ، و يسمى في الأرياف ( الاوضة ) .
و بعدما تحول هذا الزقاق الى مكان للدعارة ، صار اسم المنزول لدى الحلبيين مرتبطا ببيوت الدعارة ، بينما يستخدم أبناء بقية المحافظات هذا الاسم للإشارة الى المضافات ، كما يستعمل الحلبيون كلمة كرخانة للدلالة على بيوت الدعارة ، و هي كلمة تركية تعني ( الخان الأسود ) و الخان طبعا هو الفندق .
وكان المحل العمومي الذي تم ترخيصه للدعارة ، مؤلف من مدخل ضيق يحمل رقم 142 في لوحة معلقة على جداره ، و لذلك اشتهر هذا الرقم كرمز للمنزول .
و تنفذ من المدخل الى زقاق ضيق ، على طرفيه مجموعة من الدور العربية، لكل دار ارض ديار ( حوش ) و عدة غرف موزعة حوله ، لبعضها غرف علوية ( مربع ) ،و في نهاية الزقاق منفذ آخر له باب مغلق لا يفتح إلا في أحوال خاصة .
و قرب المحل العمومي كانت توجد حمام عامة تحمل اسم حمام الهنا ، و قد خصصت أوقات محددة فيها لفتيات الكرخانة ، و قد هدمت الآن .
و قرب المنزول مشفى خصصته الدولة لفحص الفتيات و لمعالجة الأمراض التناسلية كمرض الزهري و السفلس ،و في الأربعاء من كل أسبوع ، تخرج الفتيات من الباب الخلفي للزقاق المخصص لهذا الأمر ، ليقمن بزيارة الطبابة الشرعية - التي كانت قريبة من المنزول - لإجراء الفحص الدوري ، و في حال تبين إصابة أي منهن بمرض ما ، تعزل و تحجر حتى تتماثل للشفاء ، في المستوصف القريب من المنزول و توجد فيه غرف تشبه الزنزانات ، كما تحجر الفتيات فيه طوال فترتهن النسائية الشهرية ، لمنعهن من العمل خلالها .
و كانت الفتيات تلجأن لكي الرحم منعا من حصول الحمل ، و الى الإجهاض في حال تم حدوثه ، فقد كانت تربية الأطفال ممنوعة داخل المحل العمومي .
و في مدخل المحل العمومي غرفة صغيرة تتواجد فيها دائما مفرزة من عنصرين او ثلاثة من رجال الشرطة ، لمنع دخول الأحداث والأطفال والقتلة من أقرباء النزيلات الذين يريدون غسل عارهم ، وللشرطي في المنزول أهمية عظمى ، فهو يمنع إدخال الأسلحة والسكاكين والمشروبات ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة .
و يصدف أحيانا أن يعين شرطي متساهل ، فيتقاضى مبلغ بحدود الربع ليرة سورية - ارتفعت لاحقا الى ليرة واحدة - لغض النظر عن الشبان القاصرين الذين دون السن القانونية و الراغبين في دخول المنزول .
و أمام مدخل المنزول مباشرة يوجد مسرح ضخم لتقديم العروض الفنية ، مؤلف من ثلاث طوابق ، توجد على واجهته الحجرية كتابة قديمة هي ( قهوة السلام ) ، و قد اشتهر أخر أيام المنزول باسم مسرح غازي .
و قد كان يطلق على المسارح قديما اسم القهوة ، كقهوة البرتقال الشهيرة بحلب و هي عبارة عن مسرح مغلق ، و كانت الفتيات اللواتي يملكن مواهب فنية يقدمن عروضا فيه .
أما المنزول فتقيم فيه عشرات الفتيات من مختلف الأعمار و الجنسيات، و معظمهن غريبات و من خارج المدينة ، فلا تضع السلطة فتاة من ذات المدينة في منزول المدينة ، لأنها تتعرض للقتل فورا من قبل أفراد عائلتها .
و السبب الأكبر الذي كان يدفع الفتيات للدعارة ، و من ثم الإقامة الجبرية في المحل العمومي بعد القبض عليهن ، هو الفقر و الجهل و الظروف الاجتماعية و العائلية السيئة ، و أغلب المومسات خاليات من الجمال ، فمن كانت تملك جمالا لا تحتاج الى ممارسة البغاء لتعيش و غالبا ما تتزوج لجمالها .
و كانت المشروبات الروحية ممنوعة بشكل رسمي تجنبا للمشاكل التي يثيرها السكارى ، و لكن كانت بعض الزجاجات تتسرب للداخل ، كما تقدم المطاعم المحيطة بالمحل العمومي أنواع اللحوم المشوية الى داخل المحل .
و لا يجوز أبدا إخراج الفتيات من المحل العمومي الى منازل المدينة الخاصة ، و يحق للفتاة يوم إجازة أسبوعي هو يوم الاثنين فكانت الفتيات - في فترة بعد الظهر - ترتدين لباسا محتشما و يغطين وجوههن منعا من إثارة التعليقات ، لأنهن معروفات من اغلب شباب المدينة ، و يركبن الحنتور مع رجال مفضلين لديهن لحضور السينما .
و في حال كبرن في السن ينقلن الى منزل قريب يسمى المنزول العتيق ، حيث يمضين ما تبقى من حياتهن في عوز و فاقة بالغين.
و كان أغلب رواد المحل العمومي من الشباب العازبين و المراهقين و من العساكر و الوافدين الغرباء عن المدينة.
و كان للعساكر يوم خاص هو الخميس مساءا ، من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءا ، و تم تغييره لاحقا الى يوم الجمعة ، و لهم تخفيض خاص في السعر يصل حتى النصف ، و يأتون برفقة عريف و يصطفون بالدور برتل عسكري ، و قد يصل الدور الى عشرات الأمتار ، و تستبدل يومها مفرزة الشرطة التي تحرس مدخل المنزول بعناصر من الشرطة العسكرية.
و في الأربعينات كانت هناك ثلاث تسعيرات متعارف عليها ، و هي ليرتين ، و ثلاث ليرات ، و خمس ليرات ، تبعا لعمر الفتاة و مستوى جمالها ، و قد زادت هذه التسعيرة لتصل الى إحدى عشر ليرة في أواخر أيام المحل العمومي .
و يمضي الشاب مع الفتاة فترة قصيرة لقاء هذا المبلغ لا تزيد عن ربع ساعة ، و في حال رغب بتمديدها لمدة ساعة كان عليه ان يطلب فنجان قهوة و يدفع ثمنا له ليرة كاملة .
و بعد وصول الكهرباء للمنطقة ، وضُع في أرض حوش كل دار آلة كهربائية لإذاعة تسجيلات الاسطوانات ، فيضع الرجل ربع ليرة سورية فيها ، و ينتقي الاسطوانة التي تحمل الأغنية التي يفضلها ، لتدار آليا .
جميع الحقوق محفوظة لـدار الوثائق الرقمية التاريخية © 2025 https://www.dig-doc.org/ |